ديكتاتورية التوافق

بفعل فاعل تحولت الجمهورية اللبنانية البرلمانية الديموقراطية، الى جمهورية توافقية تفاهمية تعاقدية لا يقر فيها قرار ولا تعالج فيها كبيرة أو صغيرة الا بإجماع الحضور. يكفي ان ترفع طائفة او شريحة أو تيار يده بحق النقض «الفيتو» كي تنام القضايا في الأدراج وتتعطل مسيرة الدولة وتتعرقل شؤون البلاد والعباد.
استدراكا، ليس التوافق عيبا ولا نقيصة تستحق الشجب والاستنكار والعقاب، بل هو فضيلة أخلاقية إنسانية محمودة تستأهل التقدير والحمد والثناء. والقاعدة الشرعية تقول ان الصلح سيد الأحكام في حل الخلافات والنزاعات، حتى في المنابر القضائية، إذ غالبا ما يلجأ القاضي الى طرح التصالح والتوافق قبل صدور الأحكام. لكن ان يتحول التوافق شرطا يعطل الحياة العامة بمختلف أشكالها فهو أمر منبوذ ومذموم لا يقره شرع ولا قضاء.
فالتوافق وفق الثقافة اللبنانية عطل الدولة ومؤسساتها ودستورها وقوانينها وأطاح بكل المفاهيم الديموقراطية التي يدعي لبنان انتهاجها. فمنذ القدم قامت فكرة الدولة على أساس إدارة شؤون المجتمع من قبل نخبة مختارة، اما بالشورى أو التعيين أو الانتخاب، وحتى بالتسلط. وعندما جار السلاطين جاءت فكرة الديموقراطية والانتخاب وتداول السلطة، بحيث تتولى الأكثرية المنتخبة الحكم وتقوم الأقلية بالمراقبة والمحاسبة تحت مسمى المعارضة. فالديمقراطية لم تلغ فكرة التحكم بالقرار، حيث تنصاع الأقلية للأغلبية، ولم تعطل الدولة تحت شعار التوافق، وإلا ما هي مبررات التشريع والدساتير والقوانين والانتخاب والصراع على السلطة إذا كان التوافق شرطا مسبقا لإدارة الدولة؟
في لبنان مورس التوافق بأسوأ أشكاله، فصارت القوانين بالتوافق، والاقتصاد بالتوافق، والخدمات بالتوافق، وقبل هذا وذاك كان الأمن بالتوافق لدرجة صار سجن رومية جمهورية مستقلة وبات رجال الأمن عاجزين عن دخول غرف المساجين بحيث تضطر الدولة الى التفاوض مع السجناء من خلال وسيط. اما الجيش فبات محكوما ايضا بالقرار السياسي التوافقي لحفظ الأمن، وحتى للدفاع عن نفسه وضباطه وعناصره، وهذه سابقة لم تبلغها مزرعة فكيف بدولة تدير بلدا ووطنا.
في لبنان صار التوافق ديكتاتورية حاكمة ومتحكمة شبيهة بديكتاتورية البروليتاريا في عصور الاشتراكية التي سادت ثم بادت، فحكم باسم الشعب طغاة لم يتركوا للبروليتاريا رأيا ولا قرارا. وليس سرا ان كثيرا من اللبنانيين باتوا يتمنون اليوم، يأسا واحباطا، حكما ديكتاتوريا يؤمن لهم المياه والكهرباء والرغيف والعيش الكريم ، بديلا للتوافقية المقنّعة التي تعطل حياتهم وشؤونهم وقضاياهم. قد يكون مفهوما توافق اللبنانيين على دستورهم، اما دون ذلك ففيه الكثير من المغالاة والتشتت والضياع والخروج عن المألوف.
ما العمل؟
يستحيل الخروج من ديكتاتورية التوافق بعد اليوم في نظام طوائفي عاجز عن اتخاذ القرار في أتفه الأمور وأعظمها. والى ان يتحقق نظام الوطن والمواطنة، يمكن بكل راحة ضمير، وبكثير من الأسف، تبشير اللبنانيين بالمزيد من المعاناة على كل الصعد. ومن يعش ير…

السابق
الرئيس والمخابرات
التالي
غارات لتغيير قواعد الاشتباك