يكاد الحريري يذكِّر: حلو الوفا؟!

لا يكشف الحريريون عن عمق المرارة التي يعيشون إزاء موقف حلفائهم من قادة الأحزاب المسيحية، حيال قانون الانتخابات. بين مكابرة، وبين عدم إدراك لهول المأساة، كمن لا يزال في أول الصدمة، وبين عجز عن صياغة التعبير… ينبري بعض المسيحيين المستقلين في 14 آذار لشرح حقيقة الشعور هناك. يقول المستقلون إنهم أدرى بما يعاش ويحكى. ويؤكدون أنهم يعرفون الطرفين وعلاقتهما، حتى إنهم يدعون أبوتها منذ ثمانية أعوام على الأقل. فلكي تفهم ما يحسّه سعد الحريري الآن بالذات حيال سمير جعجع مثلاً، عليك أن تقرأ المشهد بمستويات ثلاثة: استرجاع تاريخية العلاقة بين الطرفين أولاً، ثم فهم الموقف من مشروع القانون بكل أبعاده ثانياً، وصولاً إلى أبعاد الخطوة ونتائجها كما يراها الفريق الأزرق ثالثاً.
في ماضي العلاقة، يقول مستقلو 14 آذار: يكفي أن تستعرض ما قدمه ابن الحريري لجعجع. منذ ذلك اليوم من تموز من عام 2005، حين وقف سعد على درج ساحة النجمة رافعاً إصبعيه بإشارة النصر، محتفلاً بقانون عفو عام أخرج جعجع من سجنه. يومها، حتى المحيطون به انتقدوه. قالوا له لا لزوم لتلك الاحتفالية، وخصوصاً أن ثمة في طائفتك من لم يبلع بعد اغتيال رشيد كرامي. لكن سعد لم يهتم، وأصر. لم يكن يعرف الرجل بعد. ومع ذلك لم يعد يسميه إلا «الحكيم». بعدها فتح له كل الأبواب وكل «باب». من الرياض إلى القاهرة، ومن غزة إلى دار الإفتاء، يوم كان المفتي لا يزال مهتماً بغير فتاوى قتل العلمانيين وحظر الحب بين البشر. انزعج المستقلون من اندفاعة سعد خلف جعجع، لم يرد ولم يرتد. استاء حتى أمين الجميّل. دوري شمعون رفع صوته مراراً. كل ذلك لم يثنه. كان يقولها صراحة وعلناً: هذا هو حليفي، كل رهاني عليه. على المستوى المسيحي في وجه عون لكسر صورة هيمنتنا، وعلى المستوى اللبناني في وجه حسن نصر الله، لتحييد أي فتنة سنية شيعية مباشرة، وحتى على المستوى العربي لإعطاء مشروعنا الذي نحلم به للبنان صورة ديموقراطية. وصل بالحريري الأمر حتى إعلانه أن جعجع مرشحه لرئاسة الجمهورية… فلا تسأل عن التفاصيل الصغيرة. حين طلبت معراب «تشكيل» نواب زحلة إليها، أوعز فوراً إلى رفاق عقاب صقر للالتحاق. حتى إن «الحكيم» طلب يومها نايلة ونديم وشباب الأشرفية، رفض هؤلاء فتوترت علاقتهم بالشيخ سعد ولما تزل… باختصار اجتاح جعجع قلب سعد وفكره، فلم يعد لأي طلب بين الرجلين حساب. ومن هذا المنطلق ثمة حول الحريري الابن من يذكر «الحكيم» بشعاره: حلو الوفا!
هكذا هو ماضي العلاقة، كما يفهمها الحريريون. أما واقعها الراهن من زاوية الموقف من «الأرثوذكسي»، فقصة أخرى. يحاول فريقا جعجع والجميّل التركيز على مسائل مناصفة المسيحيين وتهميش 20 عاماً ومواجهة ميشال عون والمقارنة مع موقف الثنائي الشيعي… كل ذلك قاصر عن فهم خطورة الخطوة في قراءة الحريري لها، كما يراها آباء العلاقة على خط ما كان قريطم ويسوع الملك. يقول هؤلاء إن الحريري يكاد يتساءل: معقول؟؟ هل يعرف سمير جعجع ماذا يعني لي مشروع «الأرثوذكسي»؟ هل يريدني أن أحجّم تيار رفيق الحريري في كل لبنان، إلى مجرد منافس على نحو 15 مقعداً سنياً، نتناتشها أنا وعمتي والسنيورة؟؟ فيما تصبح الدزينة السنية الباقية من نصيب خصومي ومن نصيب «الجماعة» والسلفيين وغيرهم؟؟ هل يعتقد للحظة أنني سأقبل بتحويل إرث رفيق الحريري إلى مكوِّن مساوٍ للقوى الموجودة معي؟ هذا على صعيدنا الحزبي، أما على صعيد الطائفة، فهل يدرك جعجع معنى ذلك؟ أي أن يفوز حزب الله حتماً بالأكثرية، وأن يجمع إلى سلطة سلاحه وقوته، سلطة الدولة وشرعية شرعيتها؟ وفي أي توقيت؟ فيما المعركة التي خضناها معاً ضد بشار الأسد تكاد تدخل مرحلة مماثلة لمعركتنا الأولى ضده عامي 2005 و2006. وفيما كل البيئة الحريرية والسنية تعيش شعور أن رأسها تحت المقصلة، وبعد أسابيع فقط على اغتيال وسام الحسن، أي على ما يدرك سمير جعجع أنه كان بمثابة فقء عيني سعد وتعطيل عقله الأمني والسياسي وشل ذراعه العملانية والميدانية… في هذا الوقت بالذات، في عز المصاب والمأساة وضرورة التعاطف والتضامن والتلاصق، استفاق جعجع على «المناورة»!
تبقى أبعاد ما يحصل، والقراءة الأكثر بعداً لأزمة «الأرثوذكسي» بين الرجلين الحليفين. يقول المستقلون إنهم يدأبون على ترميم ما تهدم. لكن في محيط سعد من يقول له: انسَ موضوع القانون، وانسَ الانتخابات. المسألة أكبر وأعمق. يحاولون إقناعه بأن شيئاً ما تغير لدى جعجع في السياسة وفي الأساس. ولأن سعد لا ذاكرة له حيال مرحلة الطائف، ثمة من يتطوع يقول له: لقد فعلها من قبل مع والدك. كان شريكاً له في إقرار الطائف منذ اللحظة الأولى سنة 1989. لكنه بعدما قدموا له رأس ميشال عون راح «يمتنع». اللعبة نفسها يكررها الآن معك. يومها قال له أحدهم إنك دخلت الطائف في التوقيت الخاطئ وتخرج منه في التوقيت الخاطئ أيضاً، ما سيجعلك تدفع ثمنه مرتين. اليوم يحاول أن يلعبها بشكل آمن، فلا يدفع أي ثمن، لكنه يريدك أنت يا شيخ أن تدفع أثمانه، كما اعتدت منذ ثمانية أعوام… وهناك في محيط سعد من يقول له أكثر. يوحون إليه بأن جعجع مهجوس بعقدة عون، لا يمكنه تخطيها، فلا تتعب نفسك. أو أن الثابت في شخصيته هو حلم تماهيه مع شخصية بيار الجميّل المؤسس. ذلك الذي بنى زعامته على «حماية المسيحيين» ومفهوم «الجميزة – الأمة». فيما ظلت كل الشعارات الأخرى في خطابه من باب الأكسسوارات. حتى هناك من يقول لسعد إن من يقود «القوات» بالفعل ومن خلف الستار، هو جورج عدوان، وخصوصاً في مسألة قانون الانتخابات والعلاقة مع القوى المسيحية الأخرى. أي الرجل الذي لم يخرج برأي هؤلاء من حزب «التنظيم» بعد، ولن يفعل… يؤكد المستقلون أن كلاماً كهذا يتردد في محيط سعد. لكنهم يجزمون بأن «الشيخ» ليس ولداً ليؤخذ بكلمة، ولا جعجع خائناً أو عاقاً أو مرتداً، لتصحّ مخيلاتهم والروايات. لكن القول إن ثمة شيئاً انكسر في العلاقة، فذلك صحيح. وإن يكن الرهان على ترميمه قائماً والنجاح في ذلك حتمياً، ولو نكاية بالشامتين ولو صامتين.

السابق
معاذ الخطيب ينقلب على المعارضة ويتجه الى الحوار مع الاسد
التالي
وقفة لتحالف حماية النساء و”كفى” ضد العنف الأسري