من منكم بلا طائفية فليرجمها بحجر

قلائل هم الذين يحق لهم إنتقاد الطائفية والمذهبية. إنهم فقط العلمانيون ودعاة الدولة المدنية، أو على الأقل الذين لا يرفعون رايات احتكار التمثيل الطائفي والمذهبي.

الأكثر صراحة على مسرح الأيام الأخيرة كان مفتي الجمهورية اللبنانية الشيخ محمد رشيد قباني. فهو لم يناور، ولم يتعثّر في الكلام، ولم يماطل في الإجابة لعل الظروف تحلّ له المشكلة. لقد حسمها: "كل مسؤول مسلم يوافق على الزواج المدني يكون مرتداً عن الإسلام. فلا يُغسَل ولا يكفَّن ولا يُصلّى عليه ولا يُدفَن في مقابر المسلمين".

أي: إن مسؤولاً مسلماً من هذا النوع – إذا وُجد يوماً في لبنان – سيفقد الدنيا والآخرة معاً. فهو ممنوع من العيش… زعيماً، وممنوع من الموت… مسلماً. وكما المفتي، من واجب "القادة الروحيين"، أو "قادة الأرواح" الآخرين أن يكشفوا مواقفهم من هذا الملف، عارية تماماً، بعيداً عن الإلتباسات اللبنانية المعتادة.

عندئذٍ يصبح النقاش في الزواج المدني ممكناً، لأنه سيقوم على أرضية الصراحة لا المخادعة. وعلى العلمانيين في لبنان أن يشكروا المفتي على صراحته، قبل أن ينتقدوه على موقفه.

… و«الزواج الوطني»!

وأزمة الزواج المدني شبيهة بأزمة "الزواج الوطني". في الحالين، الصراحة هي التي تؤسس للحلول وليس المناورة والمماطلة. والصراع حول مشروع "اللقاء الأورثوذكسي" يندرج ضمن هذه الدائرة. فالقوى التي أعلنت حتى اليوم رفضها للمشروع ثلاثة نماذج:

1- المبدئيون، أي العلمانيون والمناضلون من أجل الدولة المدنية. وهذا حقهم في الخوف من الإنغماس في الطائفية أكثر، فيما المطلوب رسم الخطة الكفيلة بالخروج منها.

2- المسيحيون المستقلون الذين يلتقون مع العلمانيين في القول إن الإنفتاح، وليس الإمعان في الإتجاه الطائفي، هو الذي يخدم مستقبل المسيحيين. وبعض المسيحيين المستقلين يخشى أن يؤدي فتح ملف المناصفة إلى إعادة النظر في الطائف، في ظروف غير مناسبة للمسيحيين، ما يؤدي إلى نتيجة معاكسة لما يبتغيه الدعاة إلى المشروع. ولذلك يفضّل بعض القوى المسيحية أن يصار إلى إصلاح تدريجي وهادئ لقانون 1960، من دون خضات طائفية او مذهبية.

3- تيار "المستقبل" والنائب وليد جنبلاط، وهما يرفضانه من منطلقين: الأول هو الإعتقاد بأنه سيؤدي إلى إضعاف زعامة كل منهما داخل الطائفة أو إضعاف زعامة طائفته على طوائف أخرى. والثاني هو أنه يتيح الفوز لفريق 8 آذار. ويهمّ جنبلاط ألّا يقطع "الأورثوذكسي" طريقه إلى إقرار مجلس الشيوخ.

مبررات الرفض واضحة لدى القوى العلمانية والمدنية، وهي مبدئية، ويمكن مناقشتها. وكذلك، فإن رفض القوى المسيحية المستقلة للمشروع له مبرراته الموضوعية. فهذه القوى تنطلق من قواعد منطقية جديرة بالمناقشة مسيحياً، ولكن وطنياً أيضاً. فسلامة المكوِّن المسيحي هي جزء من سلامة المكونات اللبنانية كلها.

وقد تكون هذه القوى على حق في دعوة القوى المسيحية الأربع، التي توافقت على دعم مشروع "اللقاء الأورثوذكسي"، إلى التوافق على مشروع يكرّس إندماج المسيحيين وطنياً وليس العكس. فهذه مسألة تستأهل نقاشاً عميقاً بين القوى المسيحية الرافضة والداعمة للمشروع. وليس عيباً، في بلد المجالس الملّية، أن يقوم حوار مسيحي – مسيحي حول الخيارات الكبرى للطائفة.

ولكن المفارقة تكمن في الآتي: ما هي المبررات التي تستند إليها قوى أخرى، وهي ترفع لواء التمثيل الإحتكاري او شبه الإحتكاري لطوائفها، عندما تعلن رفضها لمشروع طائفي… أي مِن طينتها؟

فالمشهد كله طائفي ومذهبي "من فوق" و"من تحت". وإذا كان أصحاب المشروع الإنتخابي المثير للجدل ينطلقون من دوافع المصلحة الطائفية أولاً، فالرافضون له يرفضونه أيضاً للمصلحة الطائفية أولاً وأخيراً، وليس من باب المواطَنَة، كما يدّعون. و"مَن مِنكم بلا طائفية فليرجمها بحجر"!

والطائفيون الحقيقيون يستشرسون اليوم، وهم يَرجمون ما تبقّى من علمانية وعلمانيين، في المدينة قاتلة الأنبياء. المدينة التي يشتدُّ الخناق عليها، والتي لا تفقد حرية العيش فقط… بل حرية الموت أيضاً!

السابق
ماروني: الجميل بحث مع الحريري في التحضيرات لاحياء ذكرى 14 شباط
التالي
روسيا تنسحب من اتفاق التعاون الأمني مع الولايات المتحدة