مشاريع إنتحار اللبنانيين لا تنتهي

عاصفة «المشروع الأرثوذكسي» قد تكون في طريقها إلى الانحسار. لكن ما جرى على امتداد الأشهر القليلة الماضية من اصطفافات سياسية اخترقت خصوصاً «الطرف المسيحي»، ينبغي ألّا يمرّ من دون إعادة تحديد عدد من المسلّمات، بدا أنّ هذا الطرف تحديداً ينبغي له أن يعيد قراءتها «بعين» أخرى.

لكن قبل هذا كلّه لا بدّ من طرح عدد من التساؤلات حول السياقات السياسية والتاريخية التي جاء من خلالها هذا المشروع، لتحديد ما إذا كان التقدّم فيه يأخذ البلد الى مدارات أخرى تعيد إصلاح الأعطاب السياسية والبنيوية العميقة التي أصابته، سواء منذ ما بات يُصطلح على تسميته بمرحلة ما بعد الانسحاب السوري من لبنان، وحتى عشية اندلاع الأزمة السورية المستمرّة منذ أكثر من 22 شهراً؟ أم أنّ هذا المشروع سيفاقم من حجم المشكلات التي يتخبّط فيها لبنان الكيان والنظام على حدّ سواء؟

هناك من يقول وعن حقّ إنّ المشروع الأرثوذكسي هو كلام حقّ يُراد به باطل، مثلما أنّ باطله يُراد به حقّ أيضاً. فدفعُ المسيحيّين اللبنانيين إلى "هامش" البلد والذي بدأ منذ تلزيم لبنان لسوريا عشية توقيع اتفاق الطائف، بعدما كانوا في "متنه"، لا يعفيهم على كلّ حال من مسؤولية السياقات التي قادوا أنفسهم بأنفسهم نحوها. وانتقال مركز ثقل القرار السياسي اللبناني الى الطوائف الأخرى و"مداورة"، قابَله تخبّطٌ مسيحيّ في إعادة قراءة المتغيرات العميقة التي أصابت البلد ومحيطه، القريب والبعيد.

فالخط "الاستقلالي" الذي لطالما كان المسيحيّون يتغنّون به في معرض دفاعهم عن "فكرة" لبنان، لم ينجحوا لاحقاً لا هم ولا الآخرون في إعادة تقديم إجابات حقيقية وكافية للاستمرار بالتمسّك بتلك "الفكرة".

حقبة السيطرة السورية الكاملة على لبنان بعد توقيع اتفاق الطائف، أنهت عمليّا تلك "الصيغة" التي استُشهد أو غُيِّب أو هُمِّش من أجلها كلّ رجالات لبنان الاستقلاليين من كمال جنبلاط وبشير الجميل والمفتي حسن خالد والشيخ صبحي الصالح والياس سركيس وبيار الجميّل وكميل شمعون وصائب سلام ومحمد مهدي شمس الدين ومحمد حسين فضل الله والبطريرك مار نصرالله بطرس صفير… وغيرهم من القيادات السياسية والدينية اللبنانية التي قضت عمرها السياسي في التنظير والدفاع عن تلك الصيغة اللبنانية.

وإذا كان من الصواب اعتبار أنّ حقبة السيطرة السورية التي انتهت "رسميّا" عام 2005 باستشهاد الرئيس رفيق الحريري، كانت هي المقدّمات الحقيقية لتهميش المسيحيّين، فإنّ الانتخابات النيابية التي جرت في صيف ذلك العام، كانت هي المحطة الأكثر تميّزاً في تعميق هذا التهميش، وصولاً إلى دفع المسيحيّين نحو "المشروع الأرثوذكسي" السيّئ الصيت.

"الانتحار" السياسي والتاريخي الذي اندفع إليه اللبنانيون منذ العام 1975 يبدو أنّه مرشّح للتعمّق أكثر فأكثر، في ظلّ المتغيّرات البنيوية الضخمة التي تضرب في طول المنطقة وعرضها منذ أكثر من سنتين.

هناك من يتّهم المسيحيين بأنّهم منقادون نحو انتحار جماعيّ في ظلّ هذا المشروع، لكنّهم ليسوا وحيدين، خصوصاً وأنّ ردود فعل الأطراف الاخرى لا تقلّ انتحارية عنهم.

عندما انسحب الاسرائيليون من لبنان في حزيران العام 2000 فوّت اللبنانيون على انفسهم إعادة بناء "صيغتهم" الفريدة، عندما رفض الشريك المسلم، وخصوصا الشيعي أن يتقدّم بمشروع استقلالي عن مرجعيته الاقليمية، سواء في دمشق أو في طهران، مثلما أنّ الشريك السنّي هو الآخر، قرأ في الخروج السوريّ عام 2005 محاولة لاستبدال تلك الهيمنة بمرجعية سنّية، تعامل معها تدريجاً من خلال ما عرف بعد ذلك بتفاهم الـ"سين سين"..

هذه الحقبة من تاريخ لبنان ينبغي إعادة قراءتها جيّداً لإعادة فهم السياق السياسي الذي جاء من خلاله المشروع الأرثوذكسي في هذه المرحلة.
غير أنّ الأمر لا يستقيم من دون محاولة قراءة الظروف الراهنة والتمعّن بهوية الجهة التي بادرت إلى طرح هذا المشروع!

إذا كان إيلي الفرزلي نائب رئيس مجلس النوّاب "التاريخي" السابق، هو الذي تقدّم بالمشروع، فإنّه من الطبيعي التساؤل غير البريء عن معرفة الجهة الحقيقية التي "أوحت" له بتقديم مشروعه في هذه اللحظة السياسية الدقيقة، والسياقات التي جاء في خِضمّها.

فالنظام السوري المحاصر والمنبوذ إقليميّا وعربيّا ودوليّا، لم ينفكّ عن محاولة إشاعة نظرية الخوف على الأقلّيات ودوره "الطليعي" في حمايتها ومواجهته للإرهاب والأصولية السنّية الزاحفة حثيثاً على المنطقة (…)

محاولة إحراج المسيحيّين وإفحامهم والمزايدة في حمايتهم، عبر طرح المشروع الأرثوذكسي، لا تعفي المسلمين وخصوصاً الشيعة من مسؤوليتهم عن تقديم إجابات كافية حول مستقبل لبنان.

إذا كان حزب الله الذي وافق على "الأرثوذكسي"، حاول إحراج المسيحيّين لدفعهم الى قبول هذا المشروع الانتحاري، فهل يعفيه ذلك من مسؤوليته عن أخذ البلد بالجملة نحو الانتحار الشامل عبر استعدائه للأكثرية السنّية عربيّا وفي العالم؟

إستعداء السوريّين الذين يقاتلون للتخلّص من نظامهم القمعي الذي حكمهم وحكم لبنان على امتداد أكثر من أربعين عاماً، هو في كافّة المقاييس انتحار جماعيّ أيضاً. سوريا "المقيمة" عميقاً في لبنان، ليست غطاء يجري تغييره وانتقاء ألوانه اختياريّا.

إذا كانت كلّ التحاليل والقراءات متّفقة على أنّ الأزمة السوريّة مرشّحة للاستطالة، بمعزل عن النقاش في صحّة المشاريع المتداولة حول مستقبلها، الممكن تحقيقه منها أو المستحيل، بسوريا "مصوملة" أو بسوريا مقسّمة أو بدولة علويّة. ألا يقرأ اللبنانيّون وحزب الله تحديداً أنّ 23 مليون سوري بأكثريتهم السنّية، كانوا ولا زالوا مرشّحين للإقامة السياسية أكثر وأكثر في لبنان مستقبلاً، في كلّ يوم يمرّ من عمر الأزمة السوريّة؟

ألا يرى حزب الله أنّ "الثورة السورية" قد تقاتل في "الهرمل" فيما هي تقاتل في "اللاذقية وطرطوس" أيضا؟ ألا يرى أنّ الاطمئنان الى القوّة الذاتية المهيمنة في لبنان، قد لا يكون كافياً للتغلّب على الـ 23 مليون سوريّ ومعهم باقي اللبنانيّين؟

ما يطرحه المشروع الأرثوذكسي عمليّا هو تحويل 18 طائفة الى أحزاب، بحيث تتحقّق معه نظرية الدمج بين الشخص القائد والحزب القائد بالطائفة!
أليس هذا ما يحاول القيام به نظام بشّار الأسد في سوريا ؟

الاعتراض على المشروع الأرثوذكسي تبلور خاصة في الأسابيع الأخيرة عبر "الصدمة" التي أحدثها موقف رئيس الجمهورية منه، وتوالي الاعتراضات المسيحية من المستقلّين، فضلاً عن الاستدراكات الأخيرة من بعض القوى "الوازنة" بين المسيحيّين، وصولاً إلى استدراك البطريرك الماروني، ومحاولته إعادة جمع القيادات المسيحية لإعادة صوغ ردّ موحّد على الأخطار التي أثارها هذا المشروع. لعلّ ذلك قد يبعث الأمل بتجاوز مرحلة قد تكون من المراحل الأكثر خطورة التي يمرّ بها لبنان في تاريخه الحديث.

ولعل تَنَدُّر أحد السياسيّين اللبنانيين في مقابلة تلفزيونية أخيرة بأنّ هذا المشروع سيجبره على الانتخاب هو وزوجته وزوجات الكثيرين من القيادات السياسية اللبنانية كلّ في طائفته وفي منطقة مختلفة… يلخّص ما نشير إليه من خطورة هذا المشروع على لبنان، فهو يشبه قرار إبطال الزواج!

غير أنّ المأساة لا تقف عند حدود هذا المشروع فحسب، بل وتتجاوزه إلى "طائفة" العلمانيين الذين لم تكلَّ حناجر "عشرات" جماهيرهم الذين يواظبون على الهتاف بمشروع "النسبية"، فيما غالبية الشعب "المتخلّف" تغرّد في وادٍ آخر. فالخطورة هنا لا تقف عند الخوف من تداعيات المشروع الأرثوذكسي على المسيحيّين.

وإذا كان الانقسام اللبناني متمترّساً هذه الأيّام في انتظار ما ستسفر عنه الحرب الدائرة في سوريا. فلماذا لا يلجأ اللبنانيّون الى التخفيف من تأثير الوافد إليهم من "الشام"، والعودة إلى قانون الدائرة الفردية، الذي يبدو حتى هذه اللحظة، أنّه القانون الأقلّ ضرراً على "الصيغة اللبنانية"، إذا كان يُراد لها أن تحفظ العيش المشترك في حدّه الأدنى بين اللبنانيين؟

حفظ لبنان لا يتأتّى عبر استعداء طوائفه بعضِها على بعض، ولا يكون عبر تمزيق المسيحيّين في الولاء والتبعية بين السنّة والشيعة. والخوف على مستقبل هذا الوجود المسيحي لا يعني الارتماء وراء وهم الاستقواء والتعاضد مع الأقلّيات الأخرى، سواءٌ كانت تلك الأقلّية مقيمة في الضاحية الجنوبية أو في منطقة العلويّين على الساحل السوري.

فلبنان لا يحتاج إلى مزيد من المشاريع التي هدّدت ولا تزال بقاءَه كدولة موحّدة وككيان قابل للعيش والاستمرار منذ نحو أربعين عاماً حتى اليوم.

السابق
انقسام درزي على خلفية مهرجان تأبيني لمقاتل في الجيش الحر
التالي
الان عون: لن نتخلى عن العصفور الذي في اليد