الحرب في مالي وديناميكياتها العربية

يقود الفرنسيون منذ أسبوعين حملة عسكرية لإنقاذ الدولة المالية من الإنهيار المحتم على يد ثلاثة تنظيمات "جهادية" مسلحة: "أنصار الدين" و"تنظيم القاعدة في بلاد المغرب" و"حركة التوحيد والجهاد في أفريقيا الغربية". هذه التنظيمات كانت غزت شمال مالي قبل ثمانية أشهر إثر إنقلاب عسكري فاشل، زعزع الكيان المالي، فسمح لها بالسيطرة، بالسلاح، على هذا الشمال، حيث مارست أصنافا من "الجهادية" تتراوح بين التهريب والاغتصاب وخطف الرهائن و"تطبيق الشريعة الاسلامية" بالهوى السلفي، أي قطع الأطراف ورجم النساء وتحجيبهن بالقوة الخ.
كان يفترض بهذه التنظيمات أن تكون أربعة، مع "حركة تحرير أزاواد"، المطالبة بحقوق الطوارق. لكن إتجاه التنظيم الطوارقي العلماني أزاحه عن المشهد، بعدما تمكن "الجهاديون" من الأرض. وكانت هذه الحركة الطوارقية المستجيب الوحيد للمفاوضات السرية والفاشلة التي نظمتها الدول المعنية، بهدف تجنّب حرب وابرام تسوية. فانسحبت بذلك من الميدان.
التنظيمات "الجهادية" الثلاثة التي بقيت فيه لم يكن لها في الماضي القريب كل هذه الشكيمة. "تنظيم القاعدة في بلاد المغرب" وحده كنا نسمع عنه، بسبب تخصّصه في خطف الرهائن الفرنسيين والمساومة على تحريرهم مقابل فدية مالية مرتفعة. أما الباقون، فمن أين أتوا؟ من أين لهم هذه القوة العسكرية المستجدة؟ ببساطة من مخازن السلاح الليبية التي فُتحت على مصراعيها بعد سقوط الديكتاتور. أول الهاربين بالسلاح كانوا المرتزقة من الطوارق. لكن تفريغ هذه المخازن الهائلة الإمداد استمر الى ما بعد سقوط القذافي، وقيام ما يفترض انها دولة القانون الليبية. ساهمت بهذا التهريب، وربما نظمته، المجموعات السلفية المسلحة الليبية، التي ما زالت تتربع على أمن ليبيا، مشكلة معضلة لـ"دولة القانون" البازغة. ولا يبدو في الأفق القريب ان طريقاً لحل هذه المعضلة قد رُسِم.
"حركة التوحيد والجهاد في أفريقيا الغربية" تضم لمام الاسلاميين المسلحين الجزائريين الذين تمكن الجيش الجزائري من طردهم بعد حرب أهلية في التسعينات أودت بحياة مئات الآلاف وشردت ودمرت… الى ما خبرناه من تلك الحروب. المهم ان اجتثاث هؤلاء الإسلاميين لم يكن جذرياً؛ أو إن "الإجتثاث" نفسه كان من غير طائل. الناجون من بين هؤلاء الاسلاميين طُردوا الى الحدود مع مالي. ومن هناك استعادوا شيئاً فشيئاً بناهم، مستفيدين من تجاربهم الأفغانية الطالبانية ومن فساد رجال الحدود الجزائريين. حتى فترة قريبة، كانت الجزائر تشبه باكستان: حكومة مدنية وجيش يخترقه "الجهاديون". ما خلق إلتباساً، نقطة ضعفه هي المواجهة، ونقطة قوته "المفاوضات"، على طريقة "الحوار هو الحل" في لبنان… أي تمرير قاتل للوقت.
حتى فترة قصيرة، أيضاً، لم تكن الحكومة الجزائرية قد حزمت أمرها. فاذا اشتركت مع فرنسا، وبقيادتها، في الحملة على "الجهاديين" فإن أشباح الاستعمار سوف تستفيق وستتهم الحكومة الجزائرية بخيانة أمانتها الوطنية الاستقلالية. ولكنها فعلت، وسمحت لأول مرة في تاريخ العلاقات الفرنسية-الجزائرية الصعبة، بمرور الطائرات العسكرية الفرنسية فوق أجوائها. الصحافة الجزائرية، ممثلة الرأي العام، أشبعت الحكومة نقداً على هذا الإذن غير المسبوق، متسلّحة بعبارات السيادة الوطنية ومعاداة الاستعمار. لكنها انقلبت تماما على رأيها السابق بعد عملية خطف الرهائن الهائلة على موقع اقتصادي سيادي، منشأة إن أميناس، الواقعة في أقصى الحدود الجنوبية. فكانت عملية إنقاذ الرهائن الدموية، التي ورطت الجزائر في الحرب صراحة، وربما بوسائل إضافية، غير السماح للطيران الفرنسي…
المال الذي جناه "الجهاديون" من التهريب وخطف الرهائن لم يكن كافياً لبسط سيادتهم على أرض بحجم شمال مالي. دولة قطر، حتى الآن، وبحسب كل المصادر الجدية، تموّل، على الأقل، واحدة من هذه التنظيمات، وهي "أنصار الدين". استراتيجياً، هذا مفيد لموقع قطر على الخريطة الأفريقية. فبتمويلها لهذه الجماعة، تكسب دورا تفاوضياً قد تحتاج إليه الحرب بعد حين. لكنها تخسر وقتا ثميناً لمشاريع نهوض، تموّلها هي أيضاً من جهة أخرى…
إذن، من السلاح الليبي الى التمويل القطري، تظهر أهم الديناميكيات العربية الميدانية. والأرجح انه يوجد من جنسها الكثير في الخيوط، غير المرئية، العريضة والدقيقة، تنسج حبكاتها في الحرب المالية . مجريات الحرب في مالي قد تكشف بعضها، ونهاياتها قد تكشف بعضها الآخر.
لكن الأهم من الميدانية، هناك الديناميكيات "الفكرية"، إذا جاز التعبير:
في سوريا أولاً: أثبتت الحملة العسكرية الفرنسية على مالي بأن دول الغرب يمكنها أن تتفق على خطوط عامة لتدخلاتها العسكرية. وبأنها، لن تتدخل في سوريا. ولكن لماذا؟ اذا كان الحكم الاسلامي في شمال مالي يهدد سبع دول مجاورة لها، فان استمرار الحرب في سوريا يهدد الشرق الأوسط كله. وإذا كان الموضوع لوجيستيا، فالواضح أن رمال مالي أصعب من هضاب الشام. هناك المصلحة ربما. ان مالي تهدد مصلحة فرنسا مباشرة، فاقتضى التدخل. بالحساب نفسه قد لا تكون سوريا، حتى الآن، تهديداً مباشراً لمصلحة أحد. بل قد يكون التدخل مهددا لمصالح كثيرة (في خضم الحرب على المالي، تسربت أنباء إلى الوكالات العالمية عن استخدام النظام السوري أسلحة كيماوية ضد المدنيين في حمص في 23 من شهر كانون الأول الماضي. لكن الدول الغربية عملت على التقليل من شأنها وإضعافها إعلامياً "لأن هذه الدول"، بحسب صحيفة "لوموند" الفرنسية"، تريد طمس القضية لكي لا تضطر الى التصرّف")
في ردود الفعل، ثانياً: ظهرت الاحتجاجات اليسارية التقليدية عن "عودة الاستعمار"، و"النيوكولونيالية"، وأخذت بعض الاقلام تتشدّد في تناولها لفرنسا. لكن الذي طغى هو المواقف والتظاهرات الإسلامية على الهجوم الفرنسي، أكثرها لفتاً للإنتباه هي المصرية منها. الحكومة المصرية الإخوانية أصدرت بياناً، انتقدت فيه، وبلهجة قليلة الحدّة، الهجوم الفرنسي على مالي. وفي الشارع نظمت تظاهرة بقيادة محمد الظواهري، شقيق أيمن الظواهري، قائد تنظيم "القاعدة"، تندّد بـ"الحرب الصليبية" على "المجاهدين" وتدق "نفير الجهاد". وهذا ثاني حضور قوي للظواهري، بعد مشاركته في تظاهرات إستنكار النيل من الرسول، إثر عرض الفيلم الأميركي "براءة المسلمين"؛ على هذا المنوال سار الباقون من المتعاطفين مع أبطال تنظيم "القاعدة" الذين يحاربون "الصليبية".
ولكن وسط كل هذا الضجيج، لم يرتفع صوت واحد ليقول بأن الإسلام الذي تدعو اليه التنظيمات الإرهابية التي استولت على شمال مالي، ليس هو الاسلام. كل ما نشرته منظمة العفو الدولية عن الجرائم التي ارتكبها هؤلاء بحق المدنيين، لم تلق بالاً واحدا لديهم. وبعد ذلك يقولون لك "إسلاموفوبيا". حسنا فليخرج واحد من بين هؤلاء المعمّمين ويعلن بأن الرجم والبتر والاغتصاب والترهيب وخطف الابرياء…. ليس من الاسلام بشيء، ليقولونها، ولو مرة واحدة. وليعطوا الناس درساً أبجدياً في الجغرافيا، ليعلموهم بأن مالي مسلمة والدول الثماني المحيطة بها غالبيتها مسلمة، وبأن حكوماتها وشعبها مذعورة من الجهاديين "أنصار الله"، وبأن كتائب من جيوشها مشتركة في الحملة الفرنسية.
في السيادة والحدود، ثالثاً: واحدة من أهم نتائج الثورات العربية، هو الإختراق الجهادي السلفي لحدودها أو سيادتها. في ليبيا التي أعاد الجهاديون جميلهم فأرسلوا لها قتلة السفير الاميركي في هجوم منظم. في اليمن حيث يعبث جهاديو "القاعدة" والحوثيين. سوريا صارت مفتوحة الحدود على الجهاديين، ولبنان يلحقها، فوق انه تحت سيطرة "حزب الله"…. حتى مصر صاحبة السيادة الأقصى على حدودها، يسود في شبه جزيرتها سيناء جهاديون يهددون كل شيء فيها.
كأننا لم نحسن حماية أنفسنا: لا من الانظمة التسلطية التي تبيعنا "أمنا" ضئيلاً مقابل عبوديتنا. ولا من التنظيمات الآخذة مكانها، والتي بوجودها تتقرر حروباً ومزيداً من العبودية. لم نحسن حماية أنفسنا من الاثنين، ولا الغرب يحسن اذا قرر. هو فقط يأتي، على كل حال، عندما تقرر مصالحه، وهو لن يعمل ضدها، ولا أحد يعمل ضد مصلحته. عندها يحضر، مكلّلاً بتقارير منظمات حقوق الانسان، والانتهاكات، والجرائم….
حرب مالي تدعونا الى التفكير بمعنى السيادة التي نقصدها عندما نتصور اننا قبضنا على جمرة حريتنا.

السابق
ما سر صعود جبهة النصرة؟
التالي
نساء سوريات في مقدّمة الثورة