هكذا تحوّل قانون الانتخابات قانون إعدام

ليست مزحة وضعية المأزق التي بلغها مشروع القانون الجديد للانتخابات النيابية. ففي خلفياته تراكمات أكثر من عقدين. لا بل ربما مكبوتات نصف قرن. وفيه طبعاً ما تخطّى لعبة الأحجام والحصص التي طبعت الاستحقاقات النيابية في تاريخ لبنان منذ وجد، وما بات أبعد من الحصول على السلطة كاملة، إذ يتصرف المنخرطون في معركة قانون الانتخابات، وكأن الاستحقاق يتراوح بين حدّين: الحد الأدنى تغيير النظام برمته، والحد الأقصى الحفاظ على البقاء والوجود لا أقل من ذلك. يكفي أن تسمع قراءة كل طرف للآخر، أو بالأحرى اتهام كل فريق لخصمه، حتى تدرك فداحة المأزق.
بداية، مسيحيّو 14 آذار من خارج الأحزاب المسيحية التي تبنّت «الأرثوذكسي»، يرون في ما يحصل تجسيداً حرفياً للحدّين المذكورين من أهداف المعركة. يقولون إن المسألة ليست قصة قانون ولا انتخابات، ما يريده ميشال عون من «الأرثوذكسي» هو تصفية ثأره القديم مع الطائف. كيف؟ يشرحون قراءتهم بتعابير بسيطة مبسّطة: إذا نجح في الحصول على هذا القانون يضمن تصفيتنا كشخصيات سياسية أو نيابية مستقلة. وهو ما يتحقق فعلاً عبر جعل الدائرة الانتخابية على مستوى كل لبنان، إذ كيف لنا نحن النواب المعتاشين منذ نحو نصف قرن على تعقيب المعاملات وزيارات التعزية وغسل الموتى بين ساحل وجرد قضاء بالكاد، أن نؤلف لائحة من 34 مارونياً، من القبيات إلى رميش؟؟ أما إذا لم ينجح في تحقيق «الأرثوذكس»، فهو سيدخل البلاد في أزمة نظام لا بد أن تؤدي نهاياتها إلى تعديل ما في تركيبة الطائف. تماماً كما أدّت كل أزمة دستورية لبنانية إلى حل دستوري في بنية النظام. منذ عام 76 والوثيقة الدستورية إلى فراع 88 الذي ولد الطائف وصولاً إلى فراغ 2007 واتفاق الدوحة…
في المقابل، لا تقل قراءة «مسيحيي الأرثوذكسي» جذرية عن مقاربة خصومهم. يقولون إن من السخافة فهم الموضوع وكأنه معركة إلغاء ضد بطرس حرب أو روبير غانم أو أمثالهما من متعهّدي مقاعد الأقضية المارونية. المسألة في عمقها وجوهرها تطاول وجود كل الجماعات اللبنانية وحياة كل لبناني. كيف؟ بكل بساطة أيضاً، لقد دخلنا مع أحداث الشتاء الإسلاموي، وتحديداً مع الحرب الأهلية السورية، قرن الحرب السنيّة _ الشيعية في كل بقعة من كوكبنا فيها سنّة وشيعة. ولنسمّ الأمور بأسمائها، ولنقل الأشياء بصراحة وبلا مواربة أو تقيّة. فقرن الحروب المذهبية قد انطلق، أو اندلع. وهو لن يوفر لبنان إلا في حالة واحدة: أن يكون المسيحيون موجودين، وحاضرين وفاعلين، ليؤدّوا الدور التسووي الامتصاصي التوفيقي والترجيحي، بما يعطّل صاعق تلك الحرب. ولكي يكون المسيحيون كذلك، يجب أن يكونوا كما هم، بكل قوتهم، بكل زعاماتهم، وبكل «حصتهم» في النظام. نعم 64 نائباً ينتخبهم المسيحيون هو الشرط الضروري والكافي لضمان عدم انفجار لبنان بنار الحرب المذهبية الآتية إلينا. ليست القصة موضوع حصص لنا، إنها مسألة سلام لكل اللبنانيين، إنها بوليصة تأمين لمرحلة العواصف الممتدة من أمير الحزام الناسف في طرابلس إلى رحلات تزلّج أحمد الأسير.
في الجانب المسلم من جهتي خط التماس «الأرثوذكسي»، ليست القراءات أقل كلية أو وجودية. فالأكثرية السنّية المتراصّة خلف الفريق الحريري ترى في المشروع عملية إجهاز سياسي ووطني وحتى جسدي عليها. كيف لقانون انتخاب أن يكون كذلك؟ يقولون: حزب الله بات يسيطر على كل مقومات الدولة. فهو يسيطر على الأرض بقوته الخاصة، ويقبض على السلطات الدستورية من تنفيذ وتشريع وقضاء، ويمد «دولته» عبر حلفائه، مثل شبكة العنكبوت، تماماً كما يمدّ شبكاته الهاتفية السلكية. لم يعد ينقصه غير شرعية سنّية لدولته. وهي شرعية حاول الحصول عليها عبر إسقاط حكومة الحريري قبل عامين، فلم ينجح. لذلك يحاول الحصول عليها اليوم عبر «الأرثوذكسي». كل ما يريده من القانون هو تكريس «نسبة» سنّية تابعة له، 30 في المئة أكثر أو أقل، تطوّب وضع يده على البلاد. وفي المقابل، نحن نناضل لئلا يحصل على ذلك. ولكي نبقي ربط نزاع قائماً مع «دولته» غير الشرعية، حتى يتغيّر ظرف ما. تماماً كما فعل المسيحيون بإبقاء ربط نزاع مع «الدولة السورية في لبنان» بعد عام 1992.
يبقى الفريق الشيعي، ومقاربته البقائية بامتياز: ما يريده الحريريون من الانتخابات هو إخراجنا من السلطة، فيما ما يعتبرونه «صحوة سنّية» تحاصرنا من بلغاريا إلى غزة، ومن الزبداني إلى القصير. فيقطعوا عنا الهواء، قبل أن تأتي محكمتهم الدولية المنطلقة على وتيرة استحقاقاتنا الداخلية في آذار المقبل، لتقطع رأسنا وتجعلنا طرائد برسم القتل. مشروع القانون بات مشروع حياتنا أو موتنا، هذه هي الحقيقة…
عندما تصير الثقة بين مكوّنات وطن واحد على هذا المستوى من العمى، طبيعي أن يشبه صندوق الاقتراع صناديق الموتى.

السابق
لاجئو سوريا يعيشون في الكهوف
التالي
نصرالله لكوادره: تغيّرنا وأولويتنا بناء الدولة