بالعودة إلى الأخطر في جريمة طرابلس … 

يضجّ الشارع الطرابلسي بتفاصيل مذهلة عن محاولة اغتيال وزير الشباب والرياضة فيصل كرامي، يوم الجمعة الماضي. تلك المحاولة التي شهدتها عيون الآلاف في إحدى ساحات ما يفترض أن يكون عاصمة لشمال لبنان، وعاصمة ثانية لهذا الوطن. أما التفاصيل التي يعود إليها الطرابلسيون فهي خصوصاً تلك الثواني التي لم تُروَ ولم تُكتب، عن أثناء المحاولة الهمجية، وحتى عمّا بعدها، لأكثر من سبب ومانع. كل ظروف الجريمة مستفظعة. فالزمان وقت صلاة، أو هكذا يفترض بالنسبة إلى المعنيين. والمكان مطوَّب باسم جد الوزير الشاب. لا لشيء، إلا لأن جده من أبطال استقلال هذا البلد. أما السلاح المستعمل فمن نوع واحد: الحقد. فيما المستهدَف كان في إحدى لحظات الجريمة، أعزل من أي سلاح، واجه من كاد أن يصبح قاتله، بصدر عارٍ وعينين ثابتتين. وحده صمت ذلك الوالد الثمانيني يروي القصة، يقول الطرابلسيون. عمر كرامي، لحظة أدرك هول ما حصل، لم يعد رئيساً سابقاً لحكومة مرتين، ولا شقيقاً لرئيس الحكومة اللبنانية الوحيد الذي اغتيل غدراً وهو في موقعه الدستوري. ولم يعد زعيماً لطرابلس، ولا سياسياً شمالياً، ولا حتى مواطناً لبنانياً تجاوز قطوع الموت لفلذة كبده. لحظة تبلغ عمر كرامي كل ما حصل، بالتفصيل الممض وغير المملّ، لم يعد والداً لابن وحيد مهدد. لحظتها صار أباً لوطن بأكمله، يموت، فاكتفى بأن يوصي وحيده: بعد اليوم، لا لزوم للزيارات، ولا حتى للصلاة!
لأن في التفاصيل المنسية، كما يقول الطرابلسيون دوماً، ما يتخطى كل قدرة على السكوت. ففي إحدى لحظات محاولة الاغتيال، عرف أهل السلاح الحاقد أن الرجل الذي في السيارة التي مرت هو فيصل كرامي. فجأة تحركت الاتصالات. نشطت المكالمات على أجهزة هوائية منتشرة في كل أرجاء المدينة. كأن أصحابها حاضرين لأمر آخر. لا علاقة له ولا علاقة لهم باعتصام الناس المقرر من أجل موقوفين في السجون. في لحظات أثمرت تلك الاتصالات استنفاراً مسلحاً عند كل تقاطعات المدينة، وحصاراً محكماً لكل شرايينها ومفاصلها. حتى أطبق الحقد على سيارة الشاب… تغصّ أصوات الرواة، تعلق حسرة بحجم موت، بين العين والحلق، تتخطاها تنهيدة كبيرة، تأخذ معها الأخطر من الحيثيات، قبل أن يعود صوت الرواية إلى لحظة الذروة: في ثانية من ظهيرة ذلك النهار، لم يعد بين رأس ذلك الشاب الشجاع، وبين مسدس أحد المراهقين، إلا ميلليمترات قليلة. وحده زجاج السيارة الشفاف الرقيق، غير الداكن ولا المصفح، كان الفاصل بين عينيه وبين فوهة مسدس رفعته يد مراهقة وصلت إليه في أحد شوارع المدينة. لم يحد بناظريه. أثبتهما في عيني القاتل المحتمل. مرت ثواني دهر وعمر، قبل أن ينطلق الرصاص صوب السماء. البعض يقول إن «المجاهد» قرر في اللحظة الأخيرة تعليق حكمه بالإعدام. البعض الآخر يقول إن يد أحد المرافقين أو المواطنين… أو يد الله أو القدر، دفعت تلك الذراع المسلحة صوب السماء، فهي وحدها قادرة على امتصاص الحقد المنطلق منها، وستره في فضائها عيباً وخجلاً وخوفاً.
في اليوم التالي، عندما قام بعض المعنيين بزيارة بيت كرامي، لم يكن الوضع أقل صدمة وذهولاً. طيلة مدة اللقاء لم تلفظ كلمة اعتذار، ولا أي اشتقاق منها أو مرادف. أقصى ما قيل إن الجريمة كانت «غلطة». والغلطة بمفهوم نتائج فعل ما، تحمل أكثر من تفسير وتأويل. أكثر من ذلك، يقول الطرابلسيون إن الكلام كان واضحاً، وبلهجة أقرب ما تكون إلى التهديد، بأنه يستحسن عدم لجوء أي كان _ لا دولة ولا غير دولة _ إلى مجرد المحاولة لتوقيف أي من المتورطين في الجريمة. في الأيام التالية، روى الطرابلسيون أن هذا الأمر ترجم عملياً في شوارع المدينة وعلى جدرانها الفعلية كما الافتراضية: هؤلاء هم «أبطال» جريمة فيصل كرامي، ممنوع حتى النظر إليهم. أما التوقيع فللشريط الناسف، الذي قيل إنه كان حاضراً أثناء الزيارة أيضاً…
مرعب حتى جنون الموت المحتوم، ما أشَّرت إليه جريمة طرابلس يوم الجمعة الماضي. المرعب فيها منسوب الحقد الأعمى الكامن خلف مجرميها. والجنون في منسوب التخلي الذي أظهرته دولة برمتها حيال واقع تفككها وتحللها وذهابها نحو الكارثة بسرعة الرصاصة. أما الموت، فلم يكن مقدراً لشاب طرابلسي جريء اسمه فيصل كرامي، ولا لمدينة تُنحر وهي ميتة منذ ثلاثة عقود. الموت كان موجهاً إلى وطن كامل، باسم ظلامية مطلقة لا يجرؤ مسؤول على تسميتها.
طريفة تلك المفارقة، أن تكون قوى 14 آذار مجتمعة للتضامن مع مروان حمادة، في وجه كلمة، في وجه الكشف عن أسرار سوداء، وضد إرادة البحث عن الحقيقة. فيما حلفاء 14 آذار يضعون المسدس والحزام الناسف في رأس وطن بكامله، ولا من يسأل. كيف السبيل إلى إقناعهم قبل الكارثة، أنه في هذه اللحظة، كلنا طرابلسيون، كلنا فيصل كرامي؟!

السابق
جمعية “جاد” تحذر من الإدمان الرقمي
التالي
قرطباوي: استجوابات الموقوفين الإسلاميين التمهيدية ستبدأ الأسبوع المقبل