الدولة الدينية والجبهة العلمانية

أخرجتُ كتب راشد الغنوشي من مكتبتي، وألقيت بها في سلّة القمامة. سأطهّر مكتبتي ورأسي معاً من كل الأوهام التي عايشناها، خلال العقدين الفائتين، حول امكانيات التحول الديموقراطي والمدني في حركية الإسلام السياسي: التعددية والمدنية والليبرالية السياسية والتقارب مع مفهومي الوطنية والعروبة والحوار، كل ذلك مجرد حملات دعائية ومساحيق كثيفة تزوّق الوجه الكريه الذي سيكشف عن نفسه سريعا عند «التمكين».
تونس وراء مصر، تسير نحو وثيقة دستورية غامضة، ملتبسة المفاهيم واللغة، وهدفها السماح بالذهاب نحو دولة دينية، تبدأ خجولة وتنتهي صريحة. في البلدين، استخدم الإخوان المسلمون، صناديق الاقتراع والرشوة والميليشيات والصفقات الإقليمية والدولية معاً، للظفر بمفاصل السلطة والمؤسسات، وبدأوا بخوض المعركة التالية للاستيلاء على الدولة برمتها، وانشاء ديكتاتورية تعتقد بحقها الإلهي بالحكم المطلق. ولكن، ما يكبح جماح الإخوان، أنهم يواجهون معارضة متنامية في الداخل، وتفككاً في الجبهة الخارجية، الغربية ــــ الخليجية، التي بدت، لبرهة، متماسكة وصلبة، وراءهم.
معارضو «الإخوان» في مصر لفيف متنوع المشارب والغايات، تجمعه، في الواقع، كلمة سر علمانية، لكنه يستخدم في مواجهة أخونة الدولة، خطابا ليبرالياً ـ حقوقياً، وآخر اجتماعياً. الخطاب غير محدّد المضمون والملامح، ويسمح حتى بالائتلاف مع قوى دينية ضد عصبوية التنظيم الإخواني. ومع أن المعارضة التونسية للإخوان، أعمق وأوضح وأصلب، وتستند إلى تقاليد نقابية عمالية راسخة على المستوى الوطني (الاتحاد التونسي للشغل)، وتنظيمات يسارية متجذرة ومناضلة، وقوى بيروقراطية مدنية ذات حضور سياسي مؤثر، فإن الصراع ضد الدكتاتورية الدينية في تونس، ما يزال، هو الآخر، يتم في سياق ايديولوجي غامض.
نموذج السلطة الإخوانية ليس جديداً؛ لقد رأيناه في قطاع غزة. إنما، بسبب الصراع مع إسرائيل، تجاهل المثقفون والصحافيون توجيه الانتقادات للسلطة الحمساوية. إلا أن ما يمكن فعله في غزة الصغيرة والهامشية، لا يمكن فعله في تونس ومصر إلا على سبيل التحدي للمجتمع، وبواسطة ميليشيات سلفية خارج القانون.
في الأردن، أدى انحسار التأثير السياسي للإخوان وتفككهم الداخلي وشعورهم بالهزيمة، إلى تشقق الطلاء الليبرالي عن شعارات الجماعة التي أعلن مراقبها العام، همام سعيد، صراحة، السير بالبلاد نحو الدولة الدينية. وفي تعميم تسرّب، عمدا، أعلن « الإخوان» أنهم موكّلون « بالمسؤولية الشرعية عن قيادة الشعب الأردني». ويفصح هذا الإعلان عن منهج معاد للتعددية والديموقراطية؛ فـ «المسؤولية الشرعية» تجبّ سواها من الشرعيات الأدنى كالشرعية الدستورية والانتخابية والثورية إلى آخره من الشرعيات بما فيها «الشرعية الشعبية» التي رفعها «الإخوان» شعارا دعائيا، وتحصر حق القيادة بتنظيم حاصل على التفويض الإلهيّ. وهنا ينتهي أي فارق من أي نوع بين الخط الإخواني وخط السلفية الجهادية.
التماهي بين هذين الخطين، سياسياً وميدانياً، هو ما نجدْه، صريحا، في سوريا؛ فـ «الإخوان» السوريون لم يعودوا ليستروا عورتهم كميليشيا مذهبية تتجه إلى دولة دينية لا تقوم فقط على تحريم كل فكر مختلف وكل نشاط مدني، وإنما على إمارة التغلّب على «النصيرية» و«النصارى»، بحيث لم يعد ممكنا تمييز إخوان سوريا عن «جبهة النصرة» وفصائل السلفية الجهادية الأخرى. صحيح أن الفريقين قد يقتتلان على الغنيمة، أو حتى بأوامر الممولين المتصارعين؛ قطر (راعية الإخوان) والسعودية (راعية السلفية الجهادية)، إنما يظل المنطلق الإيدولوجي هو نفسه، وهدف إقامة الدكتاتورية الدينية هو نفسه، والممارسات الإرهابية هي نفسها.
علينا أن نواجه الحقيقة: لا يوجد إسلام سياسي «ديموقراطي» أو «مدني»: الدكتاتورية الدينية، هي أصل أول في الإسلام السياسي، تظهر متلونة خدّاعة، بين السطور، عند «الإخوان» البراغماتيين، وصريحة لدى السلفيين والأصوليين. المذهبية والطائفية والعداء للآخر أصل ثان. وعلى مذبح هذين الأصلين، ومن أجل التمكين لهما، يعبد الإسلاميون، كل آلهة القوة الأرضية: الرأسمالية النيوليبرالية المتوحشة، والامبريالية، والرجعية، وشيوخ النفط، وحتى العدو القومي، إسرائيل.
في مواجهة هذه «الصحوة» الهمجية، لا مجال إلا لقطيعة مفهومية صارمة مع أصولها، تهدم هذه الأصول جذرياً: لا يتمتع أي حزب كان بأي شرعية غير دنيوية، ولا مكان للدين في السياسة، ولا تسامح مع الفاشية باسم الإسلام. هل نجرؤ، إذاً، على إقامة الجبهة العلمانية لإنقاذ الأمة، أقصد ــــ العربية ــــ حصرا. فالأمم تقوم على القومية والتاريخ المشترك والجغرافيا والثقافة، وليس على الأديان… إلا في الفكر الصهيوني.

السابق
العميل الاغلى واعترافات جديدة
التالي
تصعيد خطير في الايام المقبلة والابراهيمي يعتزم الاستقالة