الجنسيّة وأخواتها

حيرة إزاء التعنّت في الاستمرار في منع المرأة من منح جنسيتها لأبنائها، مع أنّ الأسباب متوفّرة ومفضوحة ومخجلة، إلا أنّه ليس هناك من يجرؤ على الإفصاح عنها، إلا التفافاً ومواربة، كمثل استخدام تعبير الديموغرافية عوضاً عن الطائفية، واستخدام مصطلح «مصالح الدولة العليا»، المطّاط، لتبرير الخرق الواضح للدستور.
حيرة، على الرغم من اليقين بأنّه ما من مسؤول في البلاد يلتزم الدستور والقوانين، والتشريعات، إلا في حال أعاد تفسيرها، أو أدخل عليها شروحاً وإضافات وديباجات تتيح له المزيد من استباحة البشر والحجر.
حيرة، مع أنّه لم يعد من سياسي في هذه البلاد، من رأس الهرم إلى أدناه، يخجل من الكلام الطائفي أو المذهبي المباشر، فبات كل منهم يدّعي، جهاراً نهاراً، أن جلّ ما يهمه هو أبناء مذهبه ومصالحهم. ممثلو «الشعب»، ممثلو الوطن، لا يمثّلون سوى أنفسهم في الحقّيقة، ومن خلفهم يصطفّ الواهمون أن هؤلاء هم حماتهم في وجه «الآخر»، كائناً من كان.
حيرة لأن قانون الجنسية برمته معمول به منذ العام 1925، وتعديله، لا يحتاج إلى مشاريع قوانين، أو ورش في مجلس النواب، بل يقتصر على فقرة وحيدة تقول «يعتبر لبنانياً من ولد من أم أو أب لبنانيين»… وبالتالي فإن الإيحاء بضرورة درس القضية «بتروٍ»، ووضع مشاريع قوانين، وإنشاء لجان وحلّها، وإعادة إنشائها، ما هو إلا ذرّ للرماد في العيون.
حيرة حول التعنّت في منع المرأة من حقّها في منح هويتها لأبنائها، أبناء قلبها، الذين سكنوا جسدها على امتداد تسعة أشهر، وسرت في عروقهم دماؤها، هم الذين يكمّلونها لأنهم جزء منها، وتكمّلهم لأنها جزء منهم. حقّ الأمّ المطلق، المستمّد، على الأقلّ، من كونها هي التي اختيرت لتحمل بهم وترضعهم. حقّ مطلق لأن أيّ امرأة تصير أمّا تصبح شخصاً آخر، تتغيّر حياتها إلى الأبد.
سؤال حول منع حقّ المرأة في منح هويتها لأبنائها، تماماً كما تمنحهم ألوان عيونهم وبشراتهم وسماتهم وطبائعهم، من روحها، من دمها. من مخاضها إلى العالم يخرجون.
كلام عاطفي؟ فيه مغالاة أو خطأ؟ لمَ لا بما أنه حقّيقي وواقعي وملموس؟
حيرة إزاء حقّ الأمّ في ما يتعلّق بالجنسية فقط، لأن البلاد اختارت ألا تكون دولة، ففصّلت قانون أحوال شخصية لكل طائفة على حدة، فبات الزواج والطلاق والحضانة والعنف الأسري والإرث وغيرها من القضايا الأساسية في قبضة رجال الدين وتفسيراتهم، من دون أي تدخل من قبل «الدولة»، التي من المفترض أن تحمي «مواطنيها»، وتحكم بينهم بالعدل، وتشرّع قوانين تضمن حقّاً أدنى من المساواة في ما بينهم.
إلا أن في انتهاك حقّ الهوية، الجنسية، الانتماء، فليُسمَّ ما يُسمَّ، ما يفوق أي انتهاك آخر لحقّوق الإنسان في لبنان، على كثرتها.
فهذه، تعمل، تدفع الضرائب، تخضع للقوانين والواجبات المرعية الإجراء، ليس هناك أي انتقاص من واجباتها الرسمية يمكن، ربما، أنّ يبرر، انتقاص حقّوقها.
إلا أن القضيّة ليست هنا، فاليوم، تتوزّع الخريطة على الشكل الآتي: «السنيّ» مؤيد لحقّ المرأة في منح الجنسية لأبنائها على أساس أن غالبية هؤلاء هم من الطائفة السنيّة. «المسيحي» معارض بحجة المسّ بالتوازن الطائفي، على الرغم من مطالبة بعضهم بالقانون الأرثوذكسي، وحماسة الجميع لدى إقرار قانون إعادة تجنيس المغتربين بغضّ النظر عن توزّعهم الطائفي. وعلى فكرة، وحتى في ذلك القانون، منعت المغتربة اللبنانية من منح الجنسية لأبنائها، انسجاماً للمسؤولين مع أنفسهم.
«الدرزي» يقف متفرّجاً، لا يرفض ولا يدفع باتجّاه القبول، فيبدو كأنه مع «حقّوق الإنسان، إلا أن حياده في الواقع ما هو إلا «تخلّ».
أما «الشيعي»، فبين حذره من التفاوت المحتمل بين أعداد الشيعة وبين أعداد السنة من أبناء الأمّهات المتزوّجات من أجانب، وبين تماديه الذي بات مخجلاً في مراعاة «حلفائه»، فهو يعارض، إلا أنه «يضحّي» ويطالب بتحسينات.
كلّ ذلك والأرقام بحسب مصدرين موثوقين، هما وزير الداخلية السابق زياد بارود، والباحثة والناشطة الدكتورة فهمية شرف الدين، ولأنهما يستندان إلى أبحاث أجريت على الأرض، يؤكدان أن الفرق بين الطوائف بسيط ولا يستحقّ الأخذ في عين الاعتبار. فبارود، وعلى الرغم من أنّه يؤكّد أنه لا يملك الأرقام الدقيقة، يقدّر أن النّسبة لا تتجاوز الستيّن في المئة من المسلمين مقابل أربعين في المئة من المسيحيين. أما شرف الدين، فتقول إن الأرقام متقاربة إلى أقصى حدّ.
وسط ذلك كلّه، يبقى حقّ نساء لبنان كلّه منتهكاً، ومعه دستوره، لتبقى الطائفية فوق الجميع، فيما يبقى أبناء جزء من نصف مواطني هذه البلاد الهجينة، اللواتي اخترن الزواج ممن هم من «غير العرق الصافي»، محرومين من «جنّة لبنان العظيم»، من حقّ الدّم ومن حقّ الأرض، أسوة بالمنتهكة حقّوقهم كافة من مواطنين «أقحاح»، منذ أكثر من ستين سنة، على يد من يختارونهم ليحكموهم.

السابق
هفوة مذيعة تثير السخرية
التالي
الوحش الذي يقتل صانعه