أقل ما يقال: كفى فجوراً …

اشتهر عن تشرشل قوله: أن الديموقراطية أسوأ أنواع الحكم… من بعد كل أنواع الحكم الأخرى. الصيغة نفسها يمكن قولها عن اقتراح «اللقاء الأرثوذكسي» لقانون الانتخابات. قد يكون الأسوأ، من بعد كل الصيغ الأخرى المطروحة، لكن بمعزل عن تفاصيل القانون ومحاكاة نتائجه ومماحكات سياسييه، يظل في المشهد المنفتح على سجال قانون الانتخابات ما هو أسوأ، لا بل ما يمكن وصفه بـ «الأسوأ»، إنه منسوب الدجل والخبث والنفاق والكذب المسكوب على هوامش النقاش.
أكثر الأمثلة تعبيراً، بيان «كتلة المستقبل» النيابية، حيث جاء أن الكتلة المذكورة أكدت رفضها «مجرد الخوض في أي مشروع يناقض العيش المشترك»، مكررة اعتراضها على الاقتراح «الذي يحوّل الشعب الى قبائل مذهبية». معقول؟؟ كيف يمكن لإنسان أن يبلغ هذا القدر إما من الجهل أو من الخبث أو من الانفصام المرضي، ليكتب من ذاك الموقع كلاماً كهذا؟؟ فلمجرد التذكير، إن كتلة «المستقبل» النيابية، هي العمود الفقري لفريق سياسي لبناني، يضم سنّة وشيعة ودروزاً ومسيحيين ولادينيين وملحدين ربما، يقوم فكره وقوله وعمله على تكريس دولة تيوقراطية عنصرية متخلفة قرونسطية في لبنان، وعلى محاولة فرضها على كل اللبنانيين. مبالغة وتجنٍّ وتحامل؟ قطعاً لا، وتعالوا نشرح ونشرِّح.
منذ قيام مفهوم الدولة الحديثة كانت العلاقة بين «المقدّس» و«الدنيوي»، أو بين الديني والزمني، إحدى إشكالياتها. ونظرياً لم يكن هناك إلا صيغ ثلاث للحل: إما أن يسيطر الديني على الزمني حتى امّحاء الأخير، فتولد التيوقراطية. وإما أن يسيطر الدنيوي على المقدس، حتى إلغائه، فينتج الأنظمة المادية. وإما أن تنظم العلاقة بين الاثنين، على قاعدة الاعتراف بهما والفصل بينهما، فتكون العلمانية بكل تلاوينها، من الملحدة إلى المؤمنة إلى الحيادية، وصولاً إلى مفهوم «الدولة المدنية» راهناً. والثابت أن التاريخ البشري علَّم ناسه أن النظريتين الأوليين دمغتاه بدماء ملايينهم، في حروب خارجية باسم «الله» أو ضده. فاعتُبرت العلمانية من دروس هذا التاريخ، بحيث أدركت عجز المجتمعات البشرية عن طرد «الفكرة الدينية» من المجتمع، في مقابل إدراكها للضرورة القصوى بالفصل القطعي الكامل بين مؤسسة الدين ومؤسسة الدولة.
هذا الفصل العلماني العصري والضروري لحياة البشر بين مجتمعاتهم ودولهم، هو تماماً ما يعارضه الفريق السياسي المتمحور حول «المستقبل» في لبنان. فهو يرفض فكراً وقولاً وعملاً، فصل مؤسسات الدين عن مؤسسة الدولة، لا بل يفرض تماهيهما ويملي بأن يكون «اللّه» في قلب دولتنا، نموذجاً تيوقراطياً بامتياز. «المستقبل» بما يمثل من فريق سياسي من كل المذاهب والطوائف، يفرض على كل مواطن، وعلى كل المواطنين، ان يموِّلوا رجال الدين من جيوبنا، وأن يعطوهم الامتيازات، حتى التشريعية والدستورية على حساب المواطنة والمساواة في الحقوق والواجبات، ويُكرهوننا على ما يخالف الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وعلى ما ينتهك حرية الضمير. إنه التحدي برسم «المستقبل»: هل تقبلون النقاش في أن يكون رجال الدين خارج بنية الدولة، وخارج موازناتها، وخارج امتيازاتها؟ هل تقبلون البحث في أن تكون طبقة رجال الدين، بلا ألقاب ومواقع دولتية رسمية؟ وما الفرق حينها في الأساس، بين فكركم وقولكم وممارستكم، وبين التيوقراطية؟
ثم والأخطر، أن «المستقبل» هو في صلب فريق سياسي من كل المذاهب والطوائف، يفرض على كل إنسان فرد مواطن لبناني، أن يكون منذ لحظة ولادته، خارج مفهوم الدولة والمواطنة. لا بل يفرض تلزيمه الكامل إلى بنيات الطوائف، عبر كارثة قوانين الأحوال الشخصية. وماذا يعني يا فؤاد النسيورة، أن تفرض على كل مواطن، بفكرك وقولك وممارستك، تلزيمه لطائفته، بلا حقه حتى في الخيار، ولو الاختياري؟ ماذا يعني أن تلْزمه وأن تلزِّمه، لأن يولد طائفياً وأن يتزوج طائفياً، وأن يرث ويورث طائفياً، وأن يموت طائفياً… وفقط عند الاقتراع، تدعي علمانيتك وتشترط عليه علمانيته، لمجرد أنك تحسب أنهما تخدمان سلطتك … أنت يا فؤاد السنيورة ترفض أن يحب مسيحي مواطنته المسلمة، وتحظر عليهما حتى حبهما الممأسس، فكيف لا تريده أن ينتخب نائبه؟ وإلا، فلماذا نام فريقك منذ 15 سنة، على مشروع القانون المدني الاختياري للأحوال الشخصية؟ ولماذا طويتموه في أدراج فريقكم، خلافاً لأحكام الدستور، بعدما أقر وفق الأصول الدستورية؟ أوليس لأن حب مواطن مسيحي لمواطنة مسلمة محظور مرفوض في فكر فريقك وقوله وعمله؟حتى الحب عندكم مرفوض، فكيف لا يكون التمثيل المنفصل مطلباً؟؟ إلا إذا كنتم تريدون من كل الناس، أن يمارسوا ازدواجيتكم بين الباطن والظاهر، وأن يتبنوا نهج تقيتكم بين المضمر والمعلن، تلك التي كتب عنها صديقكم جفري فلتمان، حين رأى صناديق النبيذ على تلك الطائرة الخاصة…
النزاهة الأدبية، والخلقية الوطنية والشخصية، كانت تقتضي منكم حيال طرح «الأرثوذكسي»، أمراً من اثنين:
إما أن تروا فيه طرحاً سياسياً محضاً، فتناقشوه على هذا الأساس كفريق سياسي محض، من دون ذرائع ميثاقية ولا تهويلات مذهبية ولا تهديدات طائفية. وفي هذه الحال، أن تذهبوا مع كل اللبنانيين إلى البرلمان، لتفصل فيه اصوات النواب، كما تفصل في كل أمر سياسي…
وإما أن تصنفوه مسألة ميثاقية كما تدعون، وعندها يكون عليكم أن تشرحوا لكل اللبنانيين، كيف ترفضون باسم الميثاق، طرحاً يعطي مناصفة ميثاقية عددية كاملة؟؟ فإما أن تعترفوا لكل اللبنانيين، بأن رفضكم للمساواة الميثاقية، نابع من فهمكم والدفين والمكبوت لاتفاق الطائف، على أنه اتفاق استبدال نظام المارونية السياسية الذي خرب البلد بعد ثلاثة عقود، بنظام السنية السياسية، الذي خربها أكثر في غضون ثلاثة أعوام. وإما أن تقولوا للبنانيين: فلنلغ الطائفية كاملة، بدءاً بأن نقبل تبادل الحب الممأسس بين مسيحي ومسلمة، وصولاً إلى تبادل اصوات الاقتراع وتمثيل النواب…
ذنب أهل «الأرثوذكسي» أنهم ذهبوا في عنصريتكم الخبيثة حتى النهاية، جريمتهم أنهم ترجموا تيوقراطيتكم البنيوية المقنعة، قانوناً دستورياً معلناً. ففي المسائل المبدئية، ثمة حدود لا يعود التهذيب ينفع معها. وأقل ما يبدو ضرورياً عندها، صرخة من نوع: كفى فجوراً.

السابق
الولايات المتحدة تحذر رعاياها من السفر الى مالي
التالي
أول زواج مدني في لبنان