يعبسون ويضحكون في العتمة 

يختصر البعض النقاش القائم هذه الأيام بأنه يمثل فريقين، الأول تغييري يقبل بالفوضى إن كانت نتيجة التغيير، والثاني شديد الواقعية يرفض الحراك بحجة المحافظة على الاستقرار. بينما لا ينتبه المتجادلون، خصوصاً منهم من يملك سلطة النشر، إلى أنهم لا يجدون من يستمع إليهم سوى أعضاء النادي الذي صارت له مكاتب كثيرة يتنقل هؤلاء بينها مثل التنقل بين صفحات العالم الافتراضي، علماً بأن المعضلة التي تواجهنا جميعاً تنحصر في عدم القدرة على إطلاق تيار قادر على فرض تنمية بشرية حقيقية من دون تبعية واستبداد، ويحمل أفكاراً خلاقة لتطوير البنى الأهلية والاجتماعية والاقتصادية.
الطموح هنا، أمر منطقي جداً. لا هو ملاذ حالمين باستعادة ماض ذهب إلى غير رجعة، ولا هو مضاد حيوي للحالات الانفصالية والإقصائية، لا سيما تلك التي تدفع أفراداً إلى حضن الماكينة الاميركية التي يرتفع ضجيجها نتيجة الصدأ الذي يكسو آلياتها. والطموح، هنا، حاجة طبيعية في مواجهة الانهزام الكلي لأفراد ومجموعات، يمارسون أسوأ أنواع الانسحاق، فتراهم يهيمون بمواقفهم وسلوكياتهم كمن لا يعرف طريقاً الى جحر يؤويه. فتارة يتغنّى هؤلاء بحداثة بناها ناهبو النفط في الجزيرة العربية، أو يندفعون لرفع راية تيار جاهلي كما هي حال الأكثر نفوذاً في أوساط الحراك السوري، وهو الهارب من مهمة فهم أسباب صعود التيار الإسلامي في العالم العربي، ولو أن قسماً منه يعتنق فكراً إقصائياً يبشر بعالم أكثر قساوة من عالم الاستبداد. وهؤلاء، يتلبّسون حداثوية غربية قائمة على منطق الاستغلال الكامل بالقوة، الناعمة منها والخشنة، ودائماً بحسب الوصفة المطلوبة لإعادة استعمار شعوب بحجة إنقاذها من قهر تاريخي. وللمصادفة، فإن الاستعمار الغربي ما خلف إلا القهر والتخلف وفتّت الثروات.
جديد هؤلاء، ليس المثابرة على رفض المساهمات الحقيقية في بناء استقلال متكامل، بل في اعتبار كل جهد يصبّ في مواجهة آلة القهر الغربية المتجددة نوعاً من الانتحار. وفي هذه الحالة، تصبح مقاومة الاحتلال، مثلاً، ضرباً من الجنون والاختلال في العقل. وتصبح محاولات منع فرط العالم العربي إلى دويلات ضرباً من الهوس بأنظمة شمولية قابضة على حقوق الأفراد وحرياتهم. وكأنه لا مجال لقيام حالة قادرة على مواجهة الاستعمار بكل أشكاله، وتحرير الفرد العربي من قيود سلاطين النفط والعسس.
وهؤلاء هم أنفسهم الذين تدخلوا باكراً لحصر حراك حقيقي في مصر وتونس وليبيا ضمن كوريدور النظام العالمي الناشط لنهب ما تبقى من ثروات العرب لمواجهة أزمة الاقتصاد الغربي. وهم أنفسهم الذين يريدون رسم صورة التغيير في جنوب الجزيرة العربية وشرقها على شكل الذات الملكية المشينة. وهم أنفسهم الذين لا يريدون للعراق أن يقوم من جديد، وهم الذين يريدون لسوريا أن تبقى أسيرة التخلف والانحدار، ولا يرون في لبنان سوى سوق للعهر، بينما ينشدون دولة فلسطينية افتراضية على شكل «قرية باب الشمس» لا أكثر.
هل لأحد أن يفسّر لنا كيف قام تحالف مفاجئ بين ما يمثله كتبة آل سعود من ذوبان في فكرة انتهازية أنتجها الغرب تحت عنوان «ازمط بريشك»، وتستولد خطاباً هو عبارة عن عملية لعب على الكلام خالية من أي مضمون إنساني، وبين ما يمثله مرتدّون لجأوا أيضاً الى إمارات فالتة من سلطة آل سعود، وقرروا هم أيضاً اللعب على الكلام، فصار الحديث عن المقدسات الإنسانية، وبين ما يمثله أبو مزيد الليبي الذي نزع عن أهل الشام أرضهم وقرر أنها أرض للرباط؟
لا داعي لأي مناورة بالكلام. ثمة استحقاقات كبيرة ماثلة للعيان. وكلّ له سلوكه الذي يعكس فهماً وموقفاً. وبالتالي، ليس من داع لأن يختبئ أحد خلف رايات الحرية. وكل ما يتطلبه الأمر قليل من المصارحة والمجاهرة بالموقف الأصلي الذي ليس خافياً حتى يسعى البعض إلى لفّه بالعتمة. من يؤيّد أميركا فليقل إنه راض بسياساتها ومعجب بما تقدمه الى البشرية ويوافق على الالتحاق بها، فرداً أو مجموعة أو غير ذلك. ومن لا يزال يصدق أن في أوروبا سلطات تحمي حقوق الانسان، فما عليه إلا أن يدين المطالبة مثلاً بإطلاق سراح جورج عبدالله أو الانسحاب الفرنسي من ليبيا ومالي. ومن يعتقد أن في حكام الجزيرة العربية خيراً لهذه الأمة، فما عليه سوى نصح النساء بمساوئ قيادة السيارات لقرن إضافي من الزمن. ومن يرَ في إيران عدوّة للحرية والتقدم، فما عليه إلا إعلان الجهاد ضدها.
أما عن حفل توزيع جوائز «واهبو الخير للإنسانية»، فليس من ينتظر أن يطلّ على مسرح احتفاله سوى أولئك الذين قررت مصارف الأرض اختيارهم رمزاً للحرية والتقدم والازدهار. وبالتالي، فمن حق هؤلاء الذين باتوا يرفضون ماضيهم ويكرهون مجتمعاتهم المتخلفة، أن يعلنوا جهاراً نهاراً أنهم ليسوا منّا، نحن الجهلة الراكضين خلف سراب. وهم ليسوا مضطرين إلى دبلجة مقالات وكتابات ليس فيها سوى المحاولة المستمرة لصياغة موقف أخلاقي من فاقدين للأخلاق، إلا إذا كانوا يشعرون بأنهم، وهم على حافة القبر، ينوون إغاظة من رفض الأخذ بطروحاتهم. فإذا كانوا كذلك، فنحن لهم من الشامتين.

السابق
واشنطن تنفي علمها المسبق بعملية الجيش الجزائري
التالي
جنود سمير جعجع المجهولون