بطل افتراضي “انتحره” النظام الأميركي

لم يكن يعرف، وهو في الرابعة عشرة من عمره، أن شغفه بتوفير المعرفة للجميع مجاناً، سيدفعه إلى وضع حد لحياته انتحاراً يوماً ما. آرون شوارتز المبرمج الأميركي والناشط في مجال حريّة الانترنت، لعب دوراً مهماً في عمر الرابعة عشرة على تطور برنامج "RSS" الذي يستخدم اليوم لتمكين الناس من تنظيم ما يرغبون بقراءته على الانترنت. وقبل أن يبلغ سن الثامنة عشرة، كان أحد المبرمجين الذين أسسوا موقع "Reddit" الإخباري التفاعلي.
كان بوسعه أن يحذو حذو كثر من المبرمجين الذين تمكنوا من جني أموال طائلة نتيجة موهبتهم واكتشافاتهم، وتكريس أنفسهم من أجل جمع الأموال، إلا أن شوارتز قرر سلوك طريق مختلف. فبعد أن اشترت إحدى الشركات الأميركية الموقع التفاعلي، ونيله مبلغاً كبيراً من المال، مما جعله أسطورةً في عالم الإنترنت والبرمجة، اختار هذا الشاب الالتزام بقناعته والتزامه الأخلاقي بوجوب توفير المعرفة للجميع.
يقول أحد الأصدقاء المقربين منه: "جمع الأموال كان مسألة سهلة لآرون، رغم ذلك لم يفعل شيئاً في حياته من أجل ربح المزيد، بل اختار العمل باستمرار لمفهوم آمن به، وهو المصلحة العامة". مفهوم يبدو أنه كان السبب الذي دفع هذا المبرمج في نهاية الأمر إلى وضع حد لحياته، ربما لأنه لم يتمكن من تحمل الضغوطات والمضايقات التي مورست عليه من قبل الحكومة الأميركية والشركات النافذة التي عمل شوارتز طوال حياته القصيرة على محاربتها.
في أيار 2012، شن آرون حملة توعية لوقف قانون "Sopa" الذي كان سيوفر للحكومة فرصة لممارسة رقابة شديدة على الحرية المعلوماتية والتواصل على الانترنت. وفي العام 2008 قام باستهداف موقع "pacer" الذي يسمح بالحصول على مستنداتٍ قضائية مقابل مبلغ من المال لكل صفحة، وهو أمر يتنافى مع مبدأ عدم جواز دفع المال للحصول على مستنداتٍ أنجزت بأموال عامة. لذا، أقدم مع عدد من أصدقائه على تطوير برنامجٍ لتحميل كل المستندات، مما اضطره إلى دفع مبلغ كبير لكي يتمكن من توفيرها للجميع مجاناً. اكتفت الشرطة الفدرالية حينها بالتحقيق معه ومضايقته، من دون أن يحتجز أو توجه إليه أي تهمة. ورغم ذلك، كانت هذه الخطوة كافية لوضع شوارتز على قائمة الأشخاص الذين يجب محاربتهم، لما لديه من تأثير ونشاط في مجال كسر الاحتكار والدفاع عن الحرية الفكرية.
في تموز 2011, بدا أن شوارتز قد تجاوز كل الخطوط الحمراء، بعد أن أقدم على مهاجمة موقع "JSTOR" المتخصص بنشر مقالاتٍ أكاديمية وبيعها على الانترنت بأسعار مرتفعة. أقدم شوارتز على هذه الخطوة نتيجة معرفته أن المبلغ الذي يحصل عليه الموقع يتم تقاسمه بين القيمين على الموقع ودور النشر، من دون أن يحصل الكتاب على حصة من الأموال، بالإضافة إلى حرص الموقع على رفض تأمين الولوج إلى منحٍ دراسية تقدمها جامعات أميركية إلى عدد كبير من الناس. ورغم أنه لم يخالف شروط الموقع بتحميل ملايين المقالات والدراسات الموجودة عليه، نظراً لكونه مشتركا بالموقع، أقدمت الإدارة على رفع دعوى تتهمه فيها بمخالفة شروط الاستخدام ومحاولته توفير المقالات للجميع مجاناً.
لم يقم شوارتز بتوزيع أي من هذه المقالات، نتيجة اكتشاف نيته قبل أن يتمكن من فعل ذلك، فأقدم على إعادة المواد المحملة واعداً بعدم استخدامها. إلا أن التهمة الأخرى التي وجهت إليه هي التعدي على أجهزة الكمبيوتر في معهد "MIT" للتكنولوجيا لكي يتمكن من تحميل كل المواد على كمبيوتره الشخصي. وافق موقع "JSTOR" على إسقاط الدعوى ضد شوارتز، إلا أن التهمة الثانية تم التمسك به وعمل على استغلالها من أجل إنزال أقصى عقوبة على شوارتز، علماً أن عقوبة التعدي في القانون تتراوح بين السجن لمدة 30 يوماً ودفع مبلغ قدره 100 دولار أميركي، عوضاً عن ذلك. أما العقوبة التي أقرها القضاء بموجب التهمة الموجهة إليه، فكانت ستعرّضه إلى السجن لعقودٍ من الزمن مع دفع غرامة قدرها مليون دولار.
تختلف الآراء حول السبب الذي دفع بالقضاء إلى محاسبة شوارتز بهذه الطريقة القاسية. شرح بعض أصدقائه أن السبب وراء ذلك هو كره القضاء لنشاط شوارتز في مجال حرية المعلومات، وعصيانه المدني، فيما اعتبر البعض الآخر أنه يكمن في رغبة الشرطة الفدرالية بالتضييق على كل المبرمجين الذين ينشطون في هذا المجال.
ويختلف المقربون منه أيضا حول دوافع الانتحار، معتبرين أن ذلك قد يرجع إلى أمور عديدة ومعقدة، مؤكدين أن الحملة القاسية التي شنّت ضده من قبل الحكومة الأميركية لعبت دوراً كبيرا في دفعه إلى الانهيار، رغم علمه المسبق أنه كان يواجه الدولة بأكملها وكذلك مصالح الشركات التي عملت على الحد من حرية المعلومات سعياً للربح المادي.
كان بإمكان هذا الشاب أن يعيش حياةً راغدة مليئة بالمال والنفوذ والراحة، لكنه اختار عوضاً عن ذلك حياةً مليئة بالتحدي ومواجهة السلطة في سبيل قضية نبيلة. قضية دفعت الحكومة إلى محاولة إخضاعه أو ربما يصح القول إلى "قتله انتحاراً"، في وقت لم يضطر أولئك الأشخاص الذين ساهموا في إدخال العالم كله في الأزمة المالية العالمية إلى الإجابة عن أفعالهم وتجاوزتهم.
رفض شوارتز الاعتراف بأنه أخطأ، ولو فعل لكانت أسقطت عنه تهمة "مجرم"، وتفادى كل الضغوطات الذي تعرض لها، لكنه اختار أن يأخذ حياته بيده.. من دون أن يذعن لأحد.

السابق
انحـدار الغـرب
التالي
هل هكذا يُغاث النازحون السوريون؟