سقوط جدار برلين القِيَمي العربي

انتظر الرئيس الأميركي دوايت أيزنهاور نهاية ولايته الثانية – 17 كانون الثاني 1961 – ليعلن بيانه الشهير ضد "نفوذ المجمع الصناعي العسكري" الأميركي في موقف لا سابق له ولا لاحق في تاريخ الرؤساء الأميركيين، فكيف وهو الجنرال الآتي من صفوف المؤسسة العسكرية الأميركية وأحد أبطالها البارزين في الحرب العالمية الثانية.

تعيين الرئيس باراك أوباما للسيناتور السابق تشاك هيغل وزيراً للدفاع، وهوالمعروف بمواقفه ضد شن حروب، "غير ضرورية"، في الخارج قد لا يحمل الأثر نفسه لتصريح الرئيس أيزنهاور ولكنه لا شك يندرج في "المعنى" نفسه.
إنما هنا – في الشرق الأوسط- دعونا لا نتفاءل بسرعة بانعكاس اختيار أوباما لوزير دفاع ضد الحرب مع أيران لأن سابقة أيزنهاور التاريخية بكل معنى الكلمة أعقبها انخراط تدريجي وسريع في أكثر حرب "غير ضرورية" تورّطت فيها الولايات المتحدة الأميركية وانتهت بخسارتها المدوّية هي حرب فييتنام التي لا تزال تترك ندوبها العميقة في جيل أميركي بكامله، تشاك هيغل هو واحدٌ منه كمجنّد مقاتل فعلي في تلك الحرب.
قد يكون العنوان الأكثر ضجيجا الآن حول اختيار هيغل هو معارضة "اللوبي الإسرائيلي" لاختياره. ولكن ربما ظهر لاحقا أن المواجهة الأعمق داخل الأمبراطورية الأميركية هي مع نمط من "النفوذ" الذي حذّر منه الرئيس أيزنهاور لِـ "المجمع الصناعي العسكري"؟
على أن هناك فارقين رئيسيّين للموقع الأميركي عنه في تلك المرحلة:
الأول هو أن "الحرب الباردة" مع الاتحاد السوفياتي في أوائل الستينات كانت بدأت تحتدم وسينتصب "جدار برلين" في الفترة نفسها كواحد من أكبر رموزها فيما اليوم لا خصمَ للولايات المتحدة من هذا النوع على المستوى العالمي حيث الأولوية اقتصادية ومالية عنوانها الصين وليس أيديولوجية وجيوبوليتيكية وعسكرية إلا في نطاق إقليمي يحصل مع الروس بشكل جزئي ولكن غير عالمي كما في العهد السوفياتي.
الثاني هو الفارق في الشرق الأوسط الحالي. ذلك أن الولايات المتحدة الأميركية حسمتْ لصالحها مركز النفوذ الأيديولوجي والقِيمي بين أوسع شرائح نخب المنطقة لاسيما الجيل الجديد بينما كان قطاع واسع من النخب في العالم في الستينات بما فيه داخل أوروبا الغربية تحت تأثير، بشكلٍ أو بآخر، الأيديولوجيا الاشتراكية. فقد أظهرت ثورات "الربيع العربي" جميعها الناجحة والفاشلة منها أن نخب الجيل العربي الجديد الوازنة باتت تدين بشكل قاطع لمفاهيم الديموقراطية الغربية بما فيها الجزء الأقوى من الحركات الإسلامية ولاسيما التي وصلت إلى السلطة في تونس وليبيا ومصر. بل تُظهر الوقائع المكشوفة من الكواليس أن حجم التنسيق بين "الإخوان المسلمين" وواشنطن أقدم وأوسع وأعمق مما كان يعتقد الكثيرون. وآخر من أدلى بدلوه في هذا "الملف" سعد الدين ابرهيم وهو تقليدياً أحد أكثر المثقفين العرب صلةً معلنةً بالولايات المتحدة (ويحمل جنسيتها أصلاً) وكان كليبراليّ مناضل في وضد عهد الرئيس حسني مبارك مُعتمداً كمستشار محلي للإدارة الأميركية في الشؤون المصرية، بما فيها خلال تظاهرات "ميدان التحرير" الأولى قبل إسقاط مبارك. فسعد الدين ابرهيم في مقابلة أخيرة مع صحيفة "الوطن" المصرية (29/12/2012) أثارت ضجة كبيرة تحدّث عن رقم مدهش للمساعدات الأميركية لـ"الإخوان المصريين" – بما فيها الدورات التدريبية (والكلام له) في صربيا وواشنطن – بلغ مليارا وأربعماية مليون دولار في السنوات الأخيرة؟ وهو رقم يدفع فعلاً للسؤال ما إذا كان مبالغا به على الأرجح.
على أن مشهد النخب العربية وجزء مهم من النخب التركية والإيرانية من تيارات عديدة لا يترك مجالا للشك أننا أمام أوسع "تحالف" فعلي بين (قِيَم) النخب العربية والمسلمة وبين الغرب بقيادة الولايات المتحدة الأميركية رغم بقاء "الجرح التاريخي" في هذه العلاقة بسبب الدعم الأميركي لإسرائيل. كانت آخر الحروب الأميركية هي في العراق حيث أسقِط أول ديكتاتور ووُضع في قفص المحاكمة "العسكرية" قبل حوالي سبع سنوات من الإدخال الشهير للرئيس المصري السابق إلى قفص المحاكمة المدنية (هذا يطرح علينا السؤال المحرج لكثيرين: أين إذن بدأ "الربيع العربي"… في بغداد أم القاهرة؟ لكن هذا حديث آخر)!
على ضوء هذين العاملين يمكن للمراقب أن يفهم ممانعة الرئيس الأميركي لفكرة حرب جديدة في منطقة كالشرق لأوسط ليست مصالح بلاده فيها مهدّدة استراتيجياً بل بالعكس فإن هذه المصالح أمام أفق مزدهر مع تبني واشنطن للديناميات السياسية الداخلية فيها كما أظهرها "الربيع العربي". فكيف حين يكون أوباما وقبل نهاية ولايته الأولى بسنةٍ تقريبا قد أعلن أن مركز الاهتمام الأميركي الرئيسي في العالم انتقل إلى شرق آسيا.
على أن السؤال الذي لا نملك قدرة الإجابة عليه: هل "المجمع الصناعي النفطي" مع أو ضد "المجمع الصناعي العسكري" في هذا السجال الداخلي الأميركي؟

السابق
ماذا يعني مصطلح اللاجئين السوريين؟
التالي
ليليى الصلح دشّنت مركزاً للرعاية الصحية في بعقلين