تشبيح على الثوابت

أفتاها مجلس الوزراء، صنّف النازحين ما بين المغلوب على أمرهم، والفاريّن من جبهات القتال، والمعارضين للنظام والذين يخضعون لدورات تدريبيّة في مناطق لبنانيّة "نائية". إجتمع لمعالجة ملف النازحين، وكانت النتيجة حفلة عارمة من المزايدات، وكأن الإنتخابات ستجري غداً، وأنّ أصحاب المعالي والكفاءة والنباهة لا يملكون من رصيد يمكن توظيفه في "المعركة الديموقراطيّة"، سوى الضرب على الوتر الفئوي والطائفي والمذهبي لاستنهاض الغرائز والعصبيات.

يزايدون، فيما الماضي شاهد، فئة من مسيحيين ومسلمين، كانت تتشبث بالوجود السوري لأنه كان معينها، ووليّ نعمتها، وسند عزّها وإفتخارها في السلطة، تتولى الآن المزايدة في رفضه. وفئة أخرى من مسيحييّن ومسلمين، كانت تعارض الوجود السوري، أصبحت الآن في طليعة المزايدين على الترحيب به، وفتح الحدود لـ "إعتبارات إنسانيّة"، وكلّ ذلك لا حبّاً بـ "الإنسانيّة" ولا بالنازحين، بل بالمزايدات، ومضاعفة رصيد الكيديات على أبواب الإنتخابات.

أفتاها مجلس الوزراء، لكن فتواه تفتقر الى المناعة الوطنيّة، وتشوبها العيوب، وتفتقر الى الحجج، وقد غابت عنها الجرأة، والأريحيّة المشرقطة، كأن ينبري من يقول للمزايدين بالقبول "إفتحوا أبواب قصوركم، وأسوار مربّعاتكم، وأراضي إقطاعياتكم أمام أفواج النازحين، وإستقبلوهم في منازلكم ودياركم على الرحب والسعة إذا كنتم تتمتعون بحسّ إنساني، وتنظرون الى هذه المشكلة من منظار إنساني بحت؟!"، وأن يقال للممانعين والمزايدين بالرفض: إنّ لحم أكتافكم، هو من فضل السوري عندما كان نافذاً في لبنان، فاخجلوا،لأنكم مكشوفون، وتاريخكم معروف، وأحجامكم وأوزانكم أيضاً؟!".

إجتمع مجلس الوزراء ليعالج مشكلة، فإذ به يضاعف من المشاكل والهواجس حول المصير، ومستقبل الكيان، والتوازنات الدقيقة التي قام عليها، وهيبة الدولة والنظام، والأمن والإستقرار والسلم الأهلي، ووحدة الأرض والشعب، والمؤسسات، إذ سبق لوزير الداخلية مروان شربل أن حذّر من الإنعكاسات الأمنية لملف النازحين، مشيراً الى "أن معدّل جرائم القتل والسرقة والخطف إزداد بنسبة تتراوح بين 50 و60 بالمئة، وأن بعضاً من الشبان السوريين العاطلين عن العمل ينخرطون ضمن عصابات بإمرة لبنانييّن، وغير لبنانييّن، وأحياناً يقومون بخطف رجال أعمال ومتموّلين سورييّن فروّا الى لبنان لإبتزازهم ماديّا؟!".

والحبل على غاربه، وأي حال سيكون عندما يقارب عدد النازحين الـ700 ألف، او مليون نازح؟، ماذا تفعل الحكومة؟، كيف ستتصرّف الدولة؟، وكيف ستكون ردّة الفعل عند المواطنين إذا ما اضطرّوا الى حماية منازلهم وممتلكاتهم من النهب والسرقة والتشبيح والإبتزاز؟!.

جرت محاولة، على أمل أن تكون مجديّة، حيث إستجابت جامعة الدول العربيّة لطلب لبنان، وقررت الإنعقاد إستثنائيّاً على مستوى وزراء الخارجيّة لمعالجة ملف النزوح، كما أعلن وزير الخارجيّة والمغتربين عدنان منصور.

ولا بدّ من التأنّي أولاً بمندرجات هذا الملف. وماذا سيقدّم لبنان؟، وكيف سيعرض قضيته؟، وماذا سيطلب تحديداً من دول الجامعة، المال فقط، أم الضمانات أولاً، للحد من موجات تدفقهم، وتأكيد عودتهم الى ديارهم عندما تتوافر الظروف المؤاتية؟!.

وفي انتظار ما سيقدمه لبنان، غابت فرنسا، لم يُسمع لها صوت في الآونة الأخيرة، على رغم أن الرئيس فرنسوا هولاند تعهد من قصر بعبدا الحرص على الإستقلال والسيادة والسلم الأهلي، في حين أن المخيمات الفلسطينيّة، معطوفة على النزوح السوري يشكلاّن أكبر خطر على الكيان، والإستقلال، والسيادة، والسلم الأهلي، وكان الرئيس نجيب ميقاتي قد أعلن خلال زيارته الرسميّة الى فرنسا بأنه أثار مع المسؤولين الفرنسييّن موضوع التداعيات السوريّة على لبنان، وقضيّة النازحين، ووصف يومها محادثاته بالإيجابيّة، ولكن، هذه الإيجابيّة لم تترجم بعد خطوات عمليّة على أرض الواقع.

أما الولايات المتحدة فلها منطقها، يهمّها الإنتخابات، وهذا ما أكدت عليه السفيرة مورا كونيلي التي تتحرّك ما بين قصر بعبدا، وعين التينة، والسراي، وكليمنصو… لكن ماذا عن النزوح، وأعداده، ومضاعفاته، وتداعياته؟، فلا جواب، سوى بعض الكلام بالإهتمام؟!.

وحدها موسكو تجاوزت كل صمت، وفضحت كل المواقف، ووضعت خطوطاً حمراً تحت الأسباب وتداعياتها المباشرة وغير المباشرة، وإعترفت بأن ما يجري في سوريا هو عنف مموّل، وعندما يتوافر المال يزداد العنف ويؤدي الى موجات واسعة من النزوح في إتجاه دول عدّة بينها لبنان.

هناك تمويل لتأجيج نار الفتنة، ولكن ليس هناك من تمويل لتغطية النتائج والتداعيات والإنفاق على النزوح، وبلسمة جراح النازحين، وهناك مسؤولية معنوية تترتب على ذلك يحاول المتموّلون التغطية عليها وتجاهلها.

وتبقى قضيّة النزوح إنسانيّة بإمتياز، لكن إستثمارها معيب، إنه تشبيح متعمّد هدفه التلاعب بمرتكزات النظام، وثوابت الكيان؟!…

السابق
أين القائد؟
التالي
الهجرة المعاكسة الى فلسطين