واشنطن: انفصام أم وصولية؟

من كل ما كُتب أميركياً عن سوريا، يستنتج أن مقاربة واشنطن للأزمة السورية تعترف بكونها معقدة مركبة. لا بل تعترف بأن أي حل أميركي لما بات يسمى «المسألة السورية»، لا بد أن يجيب عن ثلاثة مستويات أو تحديات. الأول محلي داخلي سوري. عنوانه بالنسبة إلى واشنطن، هو امتداد لنظرية التسليم من الآن فصاعداً بحكم «الأكثرية»، لضمان الاستقرار في الدول التي تهم إدارة العم سام. وقد قيل الكثير عن هذا المستوى – التحدي، مثل أن واشنطن وصلت إليه نتيجة فشل أنظمة الجنرالات والعسكر، فضلاً عن كلفتها الباهظة المهدورة، إضافة إلى ضرورة استيعاب الخطر الإسلاموي على الغرب، وخصوصاً على إسرائيل، بعد عقد من حروب بوش، كل ذلك في لحظة خادعة خداعة، قدمها النموذج الإسلاموي التركي، مع فوضوي يساري قديم، ارتد فجأة إلى الإسلام الإخواني كسبيل للوصول إلى السلطة، اسمه إردوغان… وبالتالي، ولكل تلك الخلفيات، يقتضي الحل الأميركي لهذا البعد الأول من الأزمة السورية، أن تكون السلطة في دمشق في يد «الإخوان».
البعد الثاني مرتبط بحسابات إقليمية. فسوريا دولة مركزية فعلية. وأي تغيير لحصاة في جدار من جدرانها، ينعكس حكماً على تركيبات كل الدول المحيطة. تركيا تتأثر ببعدي علوييها (العرب منهم كما منحدري آسيا الوسطى) كما أكرادها.

الأمر نفسه في العراق، بسنته وأكراده. مروراً بالأردن، أو كيان شرق النهر الذي لم يصبح وطناً قط، وقد لا يفعل بعد الاهتزاز السوري. وصولاً إلى لبنان، مستنقع كل ما لا يستقيم مع قيام دولة، حيث الذاكرة والخبرات الأميركية مريرة. وشاءت الصدف أن تدرك واشنطن هذا البعد الإقليمي للقضية السورية، لحظة عودتها الجلية إلى عقيدة التلزيمات في سياستها الخارجية. وذلك في انقلاب أوباما المباشر على نهج بوش الابن في الذهاب بجزمة عقله قبل جزمات عسكره، إلى كابول وبغداد. هكذا تبلور البعد الإقليمي للمأزق السوري أميركياً، فيما مجلة «تايم» تكاد تختار محمد مرسي رجل العام، لمجرد أنه «التزم» الملف الفلسطيني، فيما المناقصات مفتوحة في كل الأزمات الباردة التنفيسية البديلة، لتلزيمات أميركية مماثلة. هكذا، خلص القرار الأميركي على هذا المستوى الثاني، إلى أن الحل السوري، يجب أن يكون، إضافة إلى «إخوانيته»، ملزَّماً لجهة إقليمية حليفة موثوقة ومضمونة.

يبقى البعد الثالث للأزمة: مصالح واشنطن. وأولها في حقول القتل السورية، الغاز المكتشف من ضمن حوض مشرقي تكتب عنه الأساطير هذه الأيام في الغرب. وبالتالي فأي حل سوري يجب أن يضمن سيلان هذا الغاز، كما سيولته.
فجأة، وجواباً عن هذه الأبعاد الثلاثة، سحب السفير الأميركي في دمشق، روبرت فورد، اسم رجل الحل من كمه، كما أرنب الساحر: أحمد معاذ الخطيب. ليكتشف العالم قدرة واشنطن على مطابقة حلولها لطبقات الأزمات: مطلوب أولاً إخواني محلياً؟ هذا هو الخطيب، إخواني عتيق عريق، خطيب الجامع الأموي ولداً عن أب عن جد. كل عائلته مصهورة في الجو الإسلاموي. والده أبو الفرج خطيب دمشق، أخوه عبد القادر كذلك، فضلاً عن كونه أستاذ علم التفسير وأصول الفقه، حتى أخته مصونة مدرسة لأصول الفقه. ثم مطلوب ثانياً إخواني ترعاه جهة إقليمية ملتزمة للملف السوري؟ هو الخطيب أيضاً، موظف ومقيم سابق في قطر، أرض الدوحة والدعوة والتلزيم بامتياز. حتى إنه يوم كان يزور دمشق طوال العقد الماضي، لم يكن يفعل إلا كموظف قطري. فأي ضمانة تجنيدية وتحريكية، أفضل من ذلك؟
يبقى بعد المصالح الأميركية. لكن ماذا يشتغل الخطيب؟ يشتغل تحديداً بالنفط والغاز. من شركة الفرات، شريكة «شل» الهولندية، بين عامي 85 و91، وصولاً إلى مفاوض «شل» في دوحة قطر العظمى. هكذا اكتملت الضمانات الأميركية لكرزاي دمشق، كما بدأ يسميه بعض إعلام العم سام.

تبقى حاشية طريفة في كل القصة. ففي كل السير الذاتية التي وزعت رسمياً للخطيب، ورد أنه كان خطيب الجامع الأموي في دمشق حتى سنة 1991. ماذا حصل بعدها؟ لا ذكر، لا جواب. لتكتشف أنه في ذلك العام أقصي عن محراب الجامع، لا بل «نفي» خارج سوريا. من قام بذلك؟ طبعاً نظام حافظ الأسد. لماذا؟ بكل بساطة لأنه عند انطلاق الإعداد للاجتياح الأميركي للكويت، لتحرير ممتلكات آل الصباح من جنون صدام، وقف الخطيب ضد العملية، وكرس موقعه الديني لمهاجمة واشنطن والتحريض عليها والدعوة إلى الجهاد ضدها. يومها، كانت واشنطن ودمشق في شهر عسل، وكان إدوارد جيرجيان توأم روح وليد المعلم في نيويورك. فعمدت دمشق إلى نفي الخطيب، كرمى لعيني عاصفة الصحراء. بعد عشرين عاماً يحلم الخطيب بالعودة إلى دمشق، خطيباً أميركياً قاهراً للأسد، وخاطباً ود الغاز، وحالماً برثاء الجنرال شوارزكوف، فوق قبر صلاح الدين. سكيزوفرينيا أم وصولية؟ قد يحتاج الجواب إلى خطبة أخرى.

السابق
الاسد و5000 مقاتل من حزب الله
التالي
بريد إسرائيلي