فوبيا الطائفية.. متى تأفل؟!

خير ما يجتاح ذهن من يراقب المشهد اللبناني اليوم، أبياتٌ لرائد الشعر العاميّ ـ عجاج المهتار ـ الذي قال يوماً:
رش زفـــــت ونـــــــار ونفـــــوخ الهــــــــــوا
بلكي ســـوا منموت يـــا منحيا سوا
وِن ما شفي المريض لا تلوم الحكيم
لوم المريض الما رضي ياخد دوا
ألّا يعرف المرء ما يتطلّبه شفاء مرضٍ ألمّ به، مصيبة ربما تكون محمودة، ولكن أن يعرف الداء والدواء، ويتغاضى عن تجرّعه، فتلك نائبة عظيمة، لا يغفرها تاريخٌ ولا حياة.
قاعدة ذهبية استندت إليها الثورة الفرنسية قبل ما يربو على قرنين من الزمن، «لا عدالة من دون قانون.. ولا حرّية من دون نظام»، في إطار تكريس مفاهيم المساواة في الحقوق والمواطَنة والحرّية، وحول الأفكار السائدة عن التقاليد والتسلسل الهرميّ، والطبقة الأرستقراطية والسلطتَيْن الملَكية والدينية.
لم تعُد المسألة مسألة قانون انتخاب قديم أو جديد، بل إنّ هذا المجتمع تستبدّ به «فوبيا» الطائفية، ما يكرّس أننا بصدد مجتمع يؤمن بحقوقه الطائفية، لا بحقوق المواطن.
ما من مواطَنة إن لم تكن حقيقية، وأيّ صيغة انتخابية لا تتبنّى هذا المفهوم تبقى عوراء. إذا كان لا بدّ من الانتقال إلى قانون ديمقراطي حقيقيّ، يجب إتمام مراجعة شاملة حول هذه الفوبيا الطائفية والمذهبية، وإلّا، فإننا ننتج كلاماً واصطفافات خطابية تصلح للاستهلاك والعَلْك المحليّ فقط.
من ذا الذي سننتخبه أو نعيد انتخابه وفق هذه المعايير؟ هل من يصلح للديكتاتورية بامتياز، يصلح أيضاً للديمقراطية؟ وما دامت كلّ طائفة تستبدّ بفكرتها عن القانون والمجتمع والسياسة، فديمقراطية من هي إذاً؟
لمَ لا نتناول هذه المسألة الشائكة والجوهرية من زاوية نكران الذات والتخلّص من كلّ ما يحيط بنا من ترسّبات وعصبيات، لما لا نفتش عن الدواء، ونجده، وتجرّعه، ونجعل الداء يتهالك أمام مصلحة الكلّ، لا مصلحة الـ«أنا»؟
نريد ديمقراطية المواطن الذي يقبل الآخر ويحاوره، مواطن لا يؤمن بلعبة الأقلية والأكثرية وهي التجسيد الفاضح للديكتاتورية. من حقّ كلّ مواطن وكلّ إنسان أن يجد في الديمقراطية ما ينسجم مع متطلباته وحقوقه.
جلّ ما يحتاجه لبنان، بلدُ الفوضى التي تفصح عن نفسها، فوضى المخدرات والفساد والرشوة والانحطاط القيمي والمعنوي، بلدُ الشرور، والشرور على حدّ قول نيتشه هو كلّ ما يتأتّى من الضعف، جلّ ما يحتاجه حرّية تنتج بعداً إنسانياً اجتماعياً ثقافياً حضارياً، حرية تفصح عن عقل الإنسان المبدع المفكر.
من حق المواطن أن يلعب دوره في التاريخ، في الزمن، وهذا لن يُتاح إلّا من خلال الحرّية، ومضمونها هذه المسلّمات التي ذكرناها آنفاً.
ليست الحرّية في أن نجلس القرفصاء على أبواب السفارات، ليست الحرّية في أن نتوسّل الأمن الذي صدف أنه اتُفق عليه بالتراضي، ليست الحرّية أن ننتظر الفرصة المناسبة لاجتماع مجلس نواب يمتلك في يديه حلول مشكلات الشعب البائس، ونستمرّ في التفرّج. ليست الحرّية أن يستثمر الإنسان في غير ما يليق بالإنسان، إذ إنه الأكثر عائدية على الوطن، ولشدّة ما استثمر اللبنانيون الوطن، أصبح هو أيضاً مطروحاً للعرض والطلب.
إنها ظواهر انتماء ترانزيت للوطن، واضحة لا تماريها العين، حالة وطنية شبه معمّمة نلمسها بوضوح في انتماءٍ إلى باريس أو روما أو واشنطن أو… تاريخنا هو تاريخ عبور إلى الخارج عندما يريد المواطن أن يمنح صوته لمن يريد أن يمثّله وليس لديه أيّ شعور بالمواطَنة.
كفانا اعتزازاً بنزعتنا الانتصارية الخطابية السياسية المفترض أنها ديمقراطية ونحن نعيش في كنف قانون أو دستور ينصّ على ضرورة أن يكون رئيس الجمهورية مارونياً، ورئيس الحكومة سنّياً، ورئيس مجلس النواب شيعياً، لا الأكفأ والأكثر قدرة على إدارة البلاد كما يجب. ليكن معلوماً أن قمة الانحطاط تكمن في أن يكون المرء طائفياً، وعبثًا فتّشنا في أغوار الطائفية النتنة، علّنا نجد ولو فقط قسَمة ظريفة، فلم نجد فيه ذرّة من الحرّية والأرْيحة والكرامة والشرف.
كفى التراجع القهقرى إلى المستقبل، علينا وضع حدّ لهذه المهزلة المثيرة للغثيان، وهو ليس بالأمر الذي يهمّ أحدنا دون الآخر، إنه مصير بلدنا وأولادنا وأجيالنا… لقد أهملنا التاريخ وصفعناه بقوّة فلمَ نهمل المستقبل الذي قد يكون أفضل، وإن جاء على أنقاض عفن الماضي، ألم يحن الوقت لبناء مستقبل أفضل لثورة جديدة تغيّر من أشكال ما نعيشه وأنماطه، انطلاقاً من ماضينا المزري؟
إذا أردنا المقارنة بالربيع المزعوم حصوله عربياً، الذي هو أقلّ من خريف، فنحن من أكثر البلدان حاجة إلى ربيع حقيقيّ، نحن كيانات جليدية لا تحسّ، وليس لديها أدنى شعور بالخوف على أرضها. نحن شعبٌ يعرف الدواء.. وتملّك به الداء حتى السرطنة.

السابق
العجوز: نهاية الطاغية بشار الأسد باتت قريبة وسيسقط سقوطا مزلزلاً
التالي
العاصفة تسببت بانهيارات وقطعت التيار الكهربائي في الشوف