صناعة الصوبيات والمدافئ في راشيا صمدت.. وسط صراع بين جيلَين!

لا يزال الشيخ يوسف القضماني في العقد السابع من العمر يعمل بنشاط وحرفية عالية بهدف المحافظة على صناعة "الصوبيات" و"الوجاقات" والمدافئ في راشيا خوفًا من اندثارها على أيادي الجيل الجديد.

تعتبر صناعة "الوجاق" في راشيا من أقدم المهن الحرفية التي صمدت في وجه التطور التقني الذي أحدث تحولا في الصناعات الحرفية لجهة التركيز على الكمية وتراجع الإهتمام بالنوعية، لكنها استفادت منه بشكل مدروس وهادف دون أن تلغي تاريخ وتراثية هذه المهنة التي أعطت خصوصية استثنائية لراشيا منذ ثلاثينيات القرن الماضي.

صراع بين جيلين..
إنّ هذا القطاع الذي تعتاش منه عشرات العائلات، يشهد اليوم صراعاً بين المحافظة على المهنة التراثية والمعامل الكبرى المؤسسة لجمع الاموال من جهة، ومن جهة اخرى بين جيلين ونهجين في ما يتعلق بالمهنة: جيل لا يزال يحفر في ذاكرة المهنة، على وقع سندان قديم بلمسة تخرج الحديد من فوهة النار فكأنك امام قلعة حديد لا تهزها ريح ولا يتآكلها صدأ ولا يغير لونها غبار السنين، وجيل يغرف من بحر ليضع بين يديك خلال ساعات عشرات المدافئ التي تذهب مع الريح التي إذا ما هبت، تخلع تلك المدافئ طلاءها فكأنك أمام صحراء جرداء وكومة حديد جامدة.
الجيل الأول لا يزال في بعض مصانع راشيا. وإذا طالها التحديث، فإنه التحديث الذي يتماهى مع التطور التقني الذي لا يلغي هوية الإبداع والحرفة، التحديث الذي يستفاد منه في تحسين الإنتاج وفي تذليل الصعوبات التي واجهت أرباب هذه المهنة. القادمون من كافة مناطق لبنان الى راشيا لطلب المدافئ يدركون أن الدفء الحقيقي في ليالي الصقيع والبرد والثلج هو من لهب وجاق ريشاني صنع بكد صانعه وجبل بعرق جبينه. والطلب يزداد من سنة الى سنة.

مهنة تتوارثها الأجيال
ولعل الشيخ يوسف القضماني، وهو في العقد السابع من عمره، خير معبر عن أصالة هذه الحرفة في منطقة فيها تراث الأجداد حيث ورث المهنة عن والده وجده وتعلمها في الصغر مع أخيه وعلم اولاده المهنة، فكانت بين يديهما كالنقش على الحجر لا تفقد بصمات التراث ولا علامات الجودة والمتانة والجمالية، وإن دخلتها الحداثة لجهة الإستفادة من الكهرباء ومن الآلات الحديثة اليدوية التي باتت أكثر قدرة على التحكم وتوفير الوقت والجهد، لكنها بقيت مهنة الكد والعرق والفن والجمال. ويضيف: "هذه المهنة ستستمر مع أولادي وأحفادي الذين يعرفون سرها، ويقدرون أهمية ارتباطها باسم العائلة وبتاريخ راشيا منذ ثلاثينيات القرن الماضي. فقدرنا أن نواجه صقيع جبل الشيخ وثلجه وجليده وشتائه بـ "وجاقات" تبعث الدفء والإطمئنان في قلوب أهلنا وتجعلهم يتحلقون حولها في ليالي الشتاء الباردة، ينتظرون نضج طبخة من هنا، وشرب "المتّة" أو أكل الكستناء والبطاطا المشوية وغيرها من أكلات الشتاء، خاصة حول "وجاق الحطب" الذي يوزع الدفء على البيت، حيث "القعدة" حوله تكون أكثر حميمية، وأهنأ من الجلوس حول مدفأة المازوت أو مدفأة الغاز، ولا مكان في بيوت راشيا لمدفأة الكهرباء إلا ما ندر".
ويرى الشيخ المسن أن وجاق الحطب أصبح اليوم ينافس وجاق المازوت مع ارتفاع صفيحة المحروقات، وبالتالي فإن أهالي المنطقة يفضلونها لأنها أكثر ملاءمة لطبيعة البلاد القارسة شتاء، وأوفر في المصروف وفي الصحة خاصة عندما تهب الرياح وتشتد سرعتها، الأمر الذي يدفع بالدخان إلى الداخل. ويتابع: "الكلفة أعلى من كلفة المازوت وصناعة مدفأة واحدة تحتاج إلى جهد مضاعف نظراً لسماكة الحديد وللشكل الذي يطلبه الزبون وللفن الذي يضاف إلى القطعة".

الوزارات في حالة غيبوبة دائمة..
وعن تصريف الإنتاج يقول ريدان محمود: "معظم ما نصنعه يباع في المنطقة والحجوزات كثيرة، ولكن يقصدنا زبائن من قرى وبلدات بعيدة من المتن وزحلة والشوف وعاليه وقرى الجنوب، وأسعارنا معقولة لأننا لا نريد سوى تأمين لقمة العيش بعرق الجبين. بإمكاننا أن ندخل الفبارك التي تزيد الكمية كما فعل كثيرون، لكننا نريد أن تبقى هذه المهنة مستمرة بالمحافظة على النوعية وعلى الجودة، وأن لا تتأثر بسوق القطع وبالعرض والطلب، فلنا زبائننا ولغيرنا زبائنهم". وفي تقديري لا منافسة في الأسعار خاصة أننا لا نصدر إلى الخارج، ويعدد أنواع "الوجاقات" وأشكالها التي أخذ بعضها شكل قلعة أو فيلا أو قصر أو سفينة أو حتى قطار، إضافة إلى صناعة "الشامينيه الريشاني" وهي بالطبع قليلة لكنها ذات كلفة عالية نظراً للجهد الذي يبذل في سبيل إخراجها تحفة فنية يتزين بها صالون ثري أو وجيه أو محب للفن والصنعة.
وعن المشاكل التي تواجه المهنة، اعرب صاحب مصنع في ضهر الاحمر الشيخ ابو ابراهيم عن اعتقاده ان واقع هذه الصناعة قد يتعرض للاهتزاز إذا ما استمرت هذه المهنة في اسفل اهتمامات الوزارات المعنية لا سيما وزارتي الصناعة والطاقة، حيث يغيب اي شكل من اشكال الدعم المادي والمعنوي، ولا قيمة لهذه الحرفة في جدول اهتمامات المسؤولين في ظل عدم حماية المنتج المحلي من غزو المدافئ السورية والالمانية والدنماركية والتركية والصينية، وكون هذه الوزارات في حالة غيبوبة دائمة، ولا تكترث للقرى النائية في وقت لاحظ بعضهم ان عددا من المعامل الصغيرة مهدد بالافلاس والاقفال وبالتالي تشرد عشرات العائلات التي يعمل اربابها في هذه المعامل. وطالب الدولة بدعم هذه الصناعة برفع الضريبة على المدافئ المستوردة

السابق
ابراهيم السيد: ما يحصل اليوم في سوريا محاولة لتدميرها
التالي
صيدا بين سعد وحزب الله: فتش عن الأسير