فلسطين وشعبها والنكبات

"وأنا البلاد وقد أتت وتقمصتني
وأنا الذهاب المستمر الى البلاد
وجدت نفسي ملء نفسي…"
محمود درويش

ربما أراد الشاعر في هذا المقطع، من قصيدة أحمد العربي، أو أحمد الزعتر، أن يكشف العلاقة بين الفلسطيني كإنسان وقضيته، أو المعادلة بين الوطن الأرض، والشعب البشر. ليؤكد على التماهي والوصل في مواجهة منطق الفصل، والقطع، بين الموقف من القضية، والموقف من الإنسان صاحب القضية، وليصبح الفلسطيني هو البلاد، والبلاد هي الفلسطيني.
ما تقدم هو برسم من "يحب فلسطين ويناصر قضيتها"، وفي الوقت نفسه يكره شعبها. إن المسألة الفلسطينية ليست عقاراً مختلفاً عليه، بل حياة بشر، هم بمكانة الروح من جسد الوطن. والمعيار الحقيقي لمناصرة القضية الفلسطينية، هو السلوك العملي في مقاربة مشكلات الشعب الفلسطيني.
في عام 1956، اتخذ البرلمان السوري، قراراً ينص على معاملة اللاجئين الفلسطينيين، معاملة المواطن السوري لجهة الحقوق والواجبات، باستثناء حق اكتساب الجنسية، وحق الاقتراع والترشح.
وقتذاك كانت سوريا فرحة بديموقراطيتها، بعد إنجاز الاستقلال الوطني، وعلى الرغم من تقلّب الأحوال والسلطات، لكن سوريا الشعب والوطن والدولة، ظلت وفية لسياستها الثابتة تجاه اللاجئين الفلسطينيين، بل أصبح هذا الإنجاز أحد أركان الشرعية لكل حاكم جديد. لكن سرعان ما اعتبر الحاكم أن هذا الإنجاز من صنعه هو، وليس من صنع الشعب ونوابه المنتخبين وفق الأصول الشرعية.
لكن أصالة الشعب السوري تجلّت أيضاً بالإسهامات الكبيرة للمناضلين السوريين في الثورة الفلسطينية، عبر مشاركة نخب سياسية وثقافية وفنية ومقاتلين من أبناء الفقراء في أرياف سوريا.
نعم لسوريا الشعب والدولة ديناً على فلسطين، فإذا كانت السياسة الفلسطينية تلتزم موقف النأي بالنفس عن الصراع الدائر، وتلتزم أيضاً مبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية لسوريا، وهذا أمر صحيح وحسن، إلا أن الواجب الأخلاقي يقضي بأن يساعد الفلسطيني كل من احتاج إليه إنسانياً، من أشقائه السوريين، ما جعل مخيم اليرموك، ملاذاً للنازحين في وطنهم. وهذا ما أغضب النظام الذي سرعان ما طبق سياسة العقاب الجماعي، والاستخدام المفرط للقوة ضد القاطنين في المخيم سواء كانوا سوريين، أو فلسطينيين.
لقد بذلت الفصائل جهداً كبيراً، من أجل ترجمة الإجماع الفلسطيني على تحييد المخيم، وتأمين عودة أهله لمنازلهم. إلا أن من حاول العودة الأسبوع الماضي، لاحقه رصاص القنص وقذائف المدفعية… من دون قصف الطيران هذه المرة!!
إن نكبة مائة وخمسين ألف فلسطيني، ونزوحهم الجديد، يشكل مؤشراً خطيراً على احتمال تدمير واسع النطاق لعمران المخيم، تالياً إجبار الفلسطينيين على رحيل إلى المجهول، ما ينذر بتفجير مشكلة لها أبعاد سياسية مركبة في المنطقة، تتجاوز مشكلة النزوح السوري.
في الرابع والعشرين من الشهر الجاري، صدر عن مديرية الأمن العام اللبناني، أن 38447 فلسطيني، دخلوا لبنان من سوريا اعتباراً من تموز الماضي، وعاد منهم 24320. وهذا يؤشر إلى أن الموجودين حالياً على الأراضي اللبنانية يبلغ عددهم 14127 فقط موزعين بين زائرين ونازحين.
إن التحرك السياسي السريع للسلطة الفلسطينية، مع المجتمع الدولي والأمم المتحدة، أسفر عن بعض المعالجات الجزئية للجوانب الإنسانية لهذه المعضلة، لكن هذا التحرك نبه المجتمع الدولي، والمحيط الاقليمي، إلى خطورة ما يجري من استخدام الفلسطيني وزجه في الصراعات الدائرة.
ومن جهة أخرى جاء مطلب الرئيس محمود عباس بتمكين السلطة الفلسطينية من استيعاب اللاجئين لديها، من باب رد الإشكال إلى أصله، لتظهر المسؤولية الإسرائيلية في التهجير القسري، والمسؤولية الراهنة في منع عودة الفلسطينيين إلى وطنهم حتى ولو كان في الضفة الغربية.
لا شك أن الجدل الذي شهده مجلس الوزراء اللبناني يعكس حساسية العامل الفلسطيني وأثره على الوضع الداخلي اللبناني بمعادلاته المعقدة، خاصة وأن بعض الأطراف تستسهل اتخاذ أي إجراء بحق الفلسطيني، مهما كان الوضع الإنساني معقداً. لكن الحصيلة النهائية لقرارات مجلس الوزراء كانت إيجابية بالقياس للدعوات المنادية بإغلاق الحدود ومنع استقبال النازحين.
لا بل إن تخفيف بعض الإجراءات الروتينية، وطرق الحصول على تأشيرة لمغادرة مطار بيروت، والعودة إليه، ساهمت في تحسين المشهد الصعب والقاسي. كما ساهمت تلك الإجراءات باحتواء الأزمة وتفكيك الصواعق القابلة للتفجير فيها.
إلا أن الأساس في الإجراءات الوقائية المفترض إنجازها، يكمن في التزام النظام السوري، وقف أعمال القنص، والقصف والتدمير، والكف عن سياسة العقاب الجماعي، لتأمين المناخ المناسب لعودة الفلسطينيين الى بيوتهم في المخيم، سواء من الذين نزحوا داخل سوريا أو إلى لبنان.
ان المعطى الميداني، حتى الآن لا يبشر بالخير اذ ان محاولة اعادة الناس الى بيوتهم فشلت، بفعل الفشل في تحييد المخيم. هذا ما يجعل البحث عن سبل مواجهة الازمة قضية ملحة وسريعة، قبل ان تتسع ويصعب احتوائها.
() كاتب فلسطيني

السابق
وصول أول دفعة من العائلات السورية النازحة الى قطر آتية من لبنان
التالي
الأمم المتحدة تقدر قتلى سوريا بـ 60 ألفاً منذ آذار 2011