تركيا بعد أتاتورك: لا هوية!

تركيا الحديثة تعيش حالة واضحة وظاهرة من الانفصام في الشخصية! فهي تعيش حالة ضياع سياسي كموقعها الجغرافي والتاريخي، فهي لا شرق ولا غرب ولا شمال ولا جنوب!
تعاني تركيا منذ أن أخذ حزب العدالة والتنمية إدارة الحكم في 2002 من عدم استقرار فكري في مشيتها السياسية. الحزب ذو الجذور الاسلامية حاول في بداياته أن يُقيم الاعتدال ويوازن بين الفكر الاسلامي الذي حاربه أتاتورك وضباطه الأمنيون، يوازن بينها وبين العلمانية التركية المائلة صوب أوروبا الحديثة وليدة عصر النهضة والتنوير والثائرة ضد القمع الكنسي والتعصب الديني!
الجدير بالاهتمام أن الأمم عادة تفتخر بتاريخها وبأمجادها الماضية، فاليونانيون والإغريق والعرب والصينيون والهنود والاوروبيون، كلهم يستحضرون تاريخهم ويفتخرون به أمام الأمم والشعوب. على العكس من ذلك فالعثمانيون الجدد يحملون تاريخاً طويلاً لكنهم مع الأسف تراهم ينزوون عنه ويبتعدون بشكل صارخ لحد السخرية.

فتاريخهم في الدولة العثمانية أشهر من نار على علم، وآثارهم باقية تبصرها بحدة في توبكابي وسلطان أحمد ومسجد السليمانية والفاتح وآيا صوفيا كلها بقايا تعيدك مئات السنين للوراء، وتشم في حروبها ومدارسها وقصورها القديمة والمخطوطات والمتاحف والمستشفيات والسلطنات والآراضي الممتدة لآلاف الأميال، تشم في كل ذلك دولا عظيمة ترامت اطرافها وتجمّعت في ظلها شعوب متنوعة من القوميات والثقافات واللغات والديانات فكانت تركيا بسببها ملتقى ومفصلا للحضارات الرومانية والبيزنطية والأموية وجسرا يربط التاريخ القديم بالجديد.

أتفهم أن يسلك مصطفى أتاتورك بتركيا طريق العلمانية لأنه أظهرها على أنقاض دولة دينية وحاول إزالة معالم الأولى ويبني شيئا للثانية بهدف سرقة قلب العلمانية الاوروبية، فالمنهج السياسي لأتاتورك مقبول منه كونه عاش استقراراً فكريا في عمله السياسي. لكن الحزب برغم تمسكه بتاريخه الطويل الذي تحدثنا عنه، تناقض مع نفسه وانفصم على فكره وتنصل من كل شيء رضوخا ولأجل عيون المصالح في ازدواجية مضحكة.

فمع أن 97 في المئة من أراضيها آسيوية، ومع أن 93 في المئة من الـ 65 مليون الاتراك مسلمون ويريدهم أردوغان أن يبقوا على طابعهم الاسلامي العثماني كما قال في احد مؤتمرات حزبه، ومع أن العرقيات التي تعيش فيها هم من الترك والاكراد والأرمن والأبخاز والعرب والجورجيين والقليل القليل من الاوروبيين اليونانيين والفرنسيين، مع ذلك يصر حزب التنمية ليرحل بتركيا عن تاريخها، ويهجر أراضيها، ويتبرأ من ديانتها، ويدير ظهرها للغاتها وثقافة شعبها وأقلياتها، ويصر أن تتعدل أوضاعها لتصبح دولة بلا هوية رجاء لعطف الاوروبيين «وينكسر خاطرهم» ويقبلوا بها في اتحادهم!

السابق
مغتصبو الطالبة الهندية امام القضاء..والمحامين يرفضون الدفاع عنهم
التالي
دعوى لإغلاق محال الخمور والمراقص