ما اسم هذا العالم؟

قد تعرف أسماء الأشجار وأسماء الغابات ولغات البلدان وإعصارات المحيطات.. قد تعرف بغفلة عين أو كبسة زر أو لمسة أصبع على وجه «الآيباد»، أسماء الدنيا من أول كينونتها حتى ما بعد ارتحالها إلى النسيان.. قد تعرف أسماء الدين وأدعية الله وصكوك الغفران وتأجير السماء، وبيع الآيات، ومعارك المؤمنين.. قد تعرف ألقاب الحكام وقادة حروب الكون، أباطرة وملوكا ورؤساء وقادة جيوش، وترى أنهم ليسوا سوى زعران مقدسين وقتلة مطوّبين وممجّدين. قد تعرف أن التاريخ لا يعدو أن يكون قابيل وهابيل، أسياداً وعبيدا، حكاماً ومحكومين، ظُلاّما ومظلومين، قتلة ومقتولين، أقوياء وضعفاء، أشرافاً وحثالات، معبودين ومنبوذين، فيما القافلة البشرية طوابير نعاج تمدح السكين الذي به تذبح.. قد تعرف، أيضا بلمسة أصبع، ان العالم مترع بثورات، إما قُتِلَت أو قَتَلتْ، فإذا فشلت ذُبحت وإذا انتصرت افترست. كأن لا مفر من العبث بالحياة، من أجل إدامة الموت… قد تعرف، بفيض المعلومات، عن ديانات صنمية ووثنية وروحية وأرضية وسماوية وتوحيدية، لم تنقذ أحداً… قد تعرف أسماء المذاهب وتفاصيلها والطوائف وما فيها والفرق وما لها والنحل وما عليها، ولم تنجُ منها فرقة واحدة، بل أهلكت الجميع ولم تهلك.. قد تعرف أسماء الآلهة الكثر، او اسم إله واحد، قد تعرف رسلاً وحواري وأتباعاً، بدَّدوا وأبادوا، كأن السماء عندما تتدخل في الأرض تسوِّيها جحيماً.
قد تعرف، بطرفة لمس أخرى، أسماء فلاسفة ومفكرين، من شتى أصقاع الدنيا، فلاسفة اخترعوا لنا حقائق وعقائد ومدارس، لم تشف هذا العالم من عنفه… اخترعوا لنا عقائد زمنية أشد فتكاً وأمراً وطغياناً من العقائد المبرمة، الموقعة من أنبياء أو ناطقين باسم الروح القدس.. ولا عقيدة سياسية وفرت دماء العالم (ما لنا وما لعقائد العالم القديم، من اثينا إلى الاسكندرية، إلى طوباويات تذبح على الهوية الفكرية، إلى معتزلة اضطُهِدت، فلما انتصرت سفكت، إلى فرق فكرية وأصحاب رأي، عندما حكموا أقاموا للطغيان نصاباً لا رد له ولا نقصان، بالقوة).. ما لنا وما للعالم القديم: الثورة الفرنسية بنت فولتير وروسو وديدرو ومونتسكيو، تحوّلت إلى مذبحة، وشرعة حقوق الإنسان، ترجمت بلا كلل، اضطهاداً لشعوب «بحاجة إلى أن تستعمر» كي تتعلم حقوقها بعد قتلها.. شعوب سلبت منها حرياتها، لتقيد في مدرسة تعليم الحرية بالقوة. الماركسية الشيوعية، وعدت البشرية بيوتوبيا ولا أجمل: السماء على هذه الأرض. كم كانت سماؤهم استعارة من جهنم مع إضافات لا سابق لها في تاريخ التعذيب والقصاص والعنف والإبادات، وجعل العالم ملك «الغاد فاذر».. القوميات الأوروبية، وشقيقاتها العربية، أدخلت العالم في حروب كونية وإقليمية. الميراث الأممي، تحوّل مشاعاً للحروب، فاقتسموه في ما بينهم، بعد قتل 60 مليون إنسان. نعم، 60 مليون إنسان، في مذبحة ما كان ممكنا تصوّر وقوعها، لو اجتمعت الآلهة على إشعالها. النازية والفاشية، من سلالة فكرية واحدة: «البقاء للأقوى»، فما بقي من أوروبا غير الدخان والدمار… الليبرالية وحقوق الإنسان، رمت مدينتي هيروشيما ونكازاكي بقنبلتين ذريتين من صنع العلم الحديث المحصن بالسياسة والممّول من جهد الناس الذين يقضون أيامهم في مزاولة العمل، وأحيانا بعض لياليهم، في بؤس وفاقة.. الديموقراطيات الأوروبية صدّرت الاستبداد خارجها ورعته وحمته، وجدت من الأتباع المحليين من يتفوق عليها بالاستبداد والقتل والخطف والاثراء اللامتناهي…
ماذا نسمي هذا العالم؟ الأديان لم تشفه بل أشقته. والفلسفة لم تنقذه بل رمته ككرة بلا قرار (على قول الشاعر لامرتين) والعقائد السياسية لم ترشده إلى السعادة، بل قادته إلى الشقاء الذي يتراكم فوق شقاءات سابقة ويمهد لشقاءات لاحقة. لا أسماء كانت شفاءً ولا دين العقل كان خلاصاً.
فماذا نسمي هذا العالم؟ حروب تستضيفها دول وتستقر فيها. عندنا نحن العرب، من الحروب ما يكفي القارات الخمس. منذ سايكس بيكو ووعد بلفور واحتلال فلسطين وولادة النفط ومعمودية الغاز، ونحن على قارعة عنف مدنف.. ولا وقت في هذا العالم، لغير تعداد الحروب، وتعداد الضحايا، وتعداد المدن المدمرة… لا أحد يتنبه للصور التي لا ترد إلى الشاشات والصحف، عن أمهات يولولن، عن فتيات يضعن في زحام الركام، عن أطفال بلا أثداء يرضعونها، عن رجال أذلتهم النكبة وقهرتهم القوة.
ماذا نسمي هذا العالم؟ نعرف كل شيء تقريباً عنه. بكبسة زر أو لمسة «آيباد»، نعرف أن ضحايا النيوليبرالية، بالملايين: في كل دقيقة يموت 3 أطفال جوعاً أو مرضا. «الهولوكوست الكوني الصامت»، هو من صنع النيوليبرالية. على ما قاله الكاتب السويسري جان زيغلر.
النيوليبرالية أطلقت قراصنة المال والنفط والجنس، ليصبح العالم عضوا في دين السوق الكوني المسيطر. وفي كل دين، قلة مفترسة، وأكثرية مُفْتَرَسَة. الذين يقودون هذا الدين الجديد، «كهنة المال وشيوخ النفط، وجنرالات العسكر، وعقول العلماء التي كرست فقهها العلمي لتأكيد مبدأ وعقيدة وصوابية الغزو الدائم لتجار المقولة: كل شيء سلعة. ليس مهما عدد ضحايا النيوليبرالية في أميركا نفسها، أو في ضفاف أوروبا.. ليس مهما عدد المشردين والمنتحرين بسبب الانهيار الاقتصادي والمالي… ليس مهما الأرقام الفلكية التي ضاعت، ووجدت في جيوب القلة النادرة من قيادة هذا الكوكب، طالما ان جلالة الدولة، ضخت الأموال الطائلة في المصارف، وحرمتها عمّن كانوا ضحايا السرقة المنظمة والمكشوفة.. دول، أعطت النهابين ثروة جديدة، وحرمت المنهوبين من بيوتهم ورواتبهم ومعاشاتهم.
ماذا نسمّي هذا العالم؟
لن نجد في ذاكرة «الآيباد» ومراكز الأبحاث إسماً لهذا العالم. قيل عن القرن العشرين، انه قرن الحروب. ماذا يقال عن هذا القرن، الذي بدأ زمنه الحقيقي، في 11 أيلول 2001 وما أعقبه من حروب؟
أخطأت المايا في حساباتها لنهاية العالم؟ وخطأها كان نعمة لتكريس البقاء. ولكن، من يملك نبوءة يقول فيها: هكذا ينتهي الظلم وتنتهي الحروب ويتوقف العنف؟
هذا العالم بحاجة إلى نهاية ما.
النهايات السعيدة ليست من حظوظه. طموحنا ألا يكون العام القادم، أكثر سوءاً بدرجة لا تحتمل. لا أمل لنا بالخروج النهائي من هذا الجحيم. ومع ذلك، لن نرفع أيدينا ونستسلم كما يقول الشاعر سعدي يوسف: فهناك أمكنة كثيرة، لسعادات قليلة، موقتة، وجميلة.  

السابق
النهار: تفاؤل بالاتفاق على قانون انتخاب مفتٍ جديد للجمهورية
التالي
الأفرقاء لن يتنازلوا عن أوراقهم بالمفرّق