2012: لبنان يستعيض عن الانفجار بالانهيار السلس!

يحلو لمعظم الذين ينظرون الى النصف المليء من الكوب ان يمنوا النفس بان سنة 2012 الافلة لم تكن بالسوء العميم الذي كان يمكن ان تكون عليه على رغم كل ما شهده لبنان في عهدها. اذا، حتى في افضل احوال التسليم بهذا المنطق، فان التقويم لمجريات السنة ينطلق سلبيا لانه يستند الى فرضية ان لبنان كان مقدرا له ان ينفجر برمته… ولكنه لم يفعلها !

بيد ان الفعلة حصلت بمسالك ومسارب متعددة الوجه ولو لم يذهب البلد المتراقص على حبال الاهتزازات العميقة للازمة السورية وتموجاتها وتردداتها الهائلة الى الانفجار ولكنه بالكاد يطل على سنة 2013 واقفا على رجليه، ولا قدرة لقادر على التنبؤ بكم من الوقت سيتكمن من الصمود.
ولنفترض جدلا ان المعايير العلمية تبقى اصدق انباء من سائر المعايير السياسية والامنية والاجتماعية، فان ذلك يقود الى خلاصة قاتمة مع معيار اقتصادي خالص يختصر سنة التراجعات الكبيرة التي انتهت الى هبوط هائل لمعدل النمو في لبنان الى واحد ونصف او اثنين في المئة، (ولعله رقم مبالغ فيه)… وكفى.
لم يتراجع النمو في الاقتصاد والسياحة والتجارة والاستثمارات والتوظيفات فقط بل الادهى ايضا في كل المناعة السياسية والامنية وبقاياها وفوق ذلك ومعه في الاليات القليلة العاملة على حفظ شعرة التوافق السياسي في حدوده الدنيا. وكان انهيار الحوار الوطني العنوان الكبير لمشارفة الوضع الداخلي مجددا على متاهات العودة الى حقبة الصدامات، كما كان اغتيال اللواء وسام الحسن عنوان الاستعادة العنيفة لحرب الاغتيالات، وكان ملف ميشال سماحه عنوان الحرب "النظامية السورية" الاستباقية على خصوم النظام في لبنان، وكانت حروب طرابلس عنوان الانفجار العنقودي المتدحرج للافة المذهبية، وكانت هجرة العرب والخليجيين من لبنان عنوان الجفاف والقحط الناجمين عن العبث الداخلي بالامن واثمانه الثقيلة. وكانت مقاطعة 14 آذار في الفصل الختامي عنوان ازمة وطنية مفتوحة على الغارب، وكان التظاهرات النقابية التسلسلية عنوان الصدام الاجتماعي مع الحكومة منذرة بانهيار متدرج "سلس".
كل ذلك وغيره جرى على وقع عبارة من كلمتين لم يسبق للبنانيين ان عاشوا في ظلها وترداد معزوفتها وتحولها شعارا استوطن آذانهم. "النأي بالنفس"، هذه الوصفة السحرية، صارت بمثابة قبعة الاخفاء التي تتظلل بها الحكومة لاستدراج مزيد من مصل الصمت الدولي او "الدعم الدولي" الضمني لاستمرار سلطة تورط عمودها الفقري الذي يشكله "حزب الله" حتى اذنيه في الازمة السورية. وصارت في المقلب المواجه عنوان معركة المعارضة مع "سلطة الانقلاب" على الشرعية التمثيلية.
اقتحمت الازمة السورية المجريات اللبنانية، من البوابات الامنية بالدرجة الاولى لتعمم تباعا انعكاساتها وتردداتها ومضاعفاتها الواسعة في السياسة والاقتصاد والواقع الاجتماعي لتبلغ ذروة اخطارها وتهديداتها مع كارثة النازحين السوريين والفلسطينيين المتعاظمة في الاسابيع الاخيرة من السنة.
نادرا ما عرف لبنان قضية محكمة وكاملة بالاثباتات والادلة والقرائن كما برز في ملف الوزير السابق ميشال سماحه الذي جاء توقيفه بمثابة انفجار مدو صاعق في عمل استخباراتي مذهل انجزه رئيس شعبة المعلومات في قوى الامن الداخلي العميد وسام الحسن، وتوج به مساره الامني اللامع ليدفع لاحقا حياته ثمنا له.
رسم ملف سماحه سريعا مصير البلاد واختصره في الصراع المريرالتصاعدي بين محاولات تفجير لبنان وزعزعته ومحاولات الحفاظ على الحد الادنى من استقراره. واظهر هذا الملف بما رافقه وتبعه من تداعيات ضخمة ان قرار الامتناع عن الانتحار والتورط في حرب اهلية لبنانية، متخذ فعلا على مستويين داخلي وخارجي، وبتسليم من سائر الافرقاء اللبنانيين. لكن هذا القرار وحده لم يحم لبنان لا من السلوكيات الهجومية الوافدة من الازمة السورية وفي مقدمها الاستهدافات الامنية، ولا من مفاعيل بعض السلوكيات السياسية الداخلية التي ظلت تستهين بالتهديدات الامنية والاغتيالات ومحاولات الاغتيال التي تستهدف فريق 14 آذار بعينه. ارتفع دخان الحرب الاستباقية السورية التي اختصرها ملف سماحه فوق مجمل المشهد اللبناني ودفع احتقاناته قدما خصوصا في ظل محاولتي اغتيال موصوفتين لكل من رئيس حزب "القوات اللبنانية" سمير جعجع في قلب عرينه في معراب، والنائب بطرس حرب في مكتبه. وهي احتقانات ظلت تتفاعل بقوة، في ظل تشكيك فريق 8 آذار في المحاولتين حتى انفجر هذا المقلب الامني مع اغتيال اللواء وسام الحسن في استعادتين شديدتي الشراسة لاغتيال كل من الرئيس رفيق الحريري والنائب جبران تويني.
لم تقف حدود تصدير الازمة عند استحضار حرب الاغتيالات، بل توغلت الى العمق المذهبي والاجتماعي مع ظاهرة خطف لبنانيين في سوريا. على وقع خطف 11 زائرا شيعيا في حلب تكبد لبنان ثمنا موجعا عقب ظاهرة قطع طريق المطار وبروز ما سمي "المجالس العسكرية" لبعض العشائر التي قامت بخطف سوريين واتراك. وضربت الدول الخليجية حصارا مؤلما على لبنان بمنع رعاياها من السفر اليه مقرونا بهجرة من بقي فيه من الخليجيين.
وعلى وقع الاحتدام المذهبي المتصاعد ومع اقتحام الاغتيالات منطقة عكار باغتيال احد المشايخ النافذين فيها، تمددت الفتنة الى الشمال وكادت تحدث صداما بين الجيش وشريحة واسعة من الاهالي. ولكن نجاة عكار من الفخ لم تنطبق على طرابلس، المدينة الممثلة بخمسة وزراء من بينهم رئيس الحكومة، التي عادت تغرق في دماء اهلها ولجة الفتنة والفقر وحرب الشوارع والمتاريس.
كادت طرابلس مرات عدة تهدد امن لبنان كله، ورسمت ملامح العجز القاتل عن اجتراح حلول جذرية لوقف هذا الانتحار المتمادي والذي صعد معه تعداد جولات القتال فيها منذ عام 2008 الى 14 جولة… بدت طرابلس المدينة الاشد تفاعلا مع الثورة السورية، بل شكلت خط التماس المتفجر المتقدم بين مؤيدي النظام السوري ومناهضيه، ورسم تورط فئات اسلامية منها في الازمة السورية ملامح توازن الرعب اللبناني في تورطين شيعي وسني في هذه الازمة، مما وضع الرئيس نجيب ميقاتي شخصيا وحكومته امام الاحراج الضخم الهائل حيال الالتزام الفعلي لسياسة النأي بالنفس التي ترفعها حكومته. ولم تكن ظاهرة الشيخ احمد الاسير في صيدا سوى امتداد، ولو ضيق الافق، لتداعيات الازمة الطرابلسية. ولكن صيدا تفوقت على شقيقتها الشمالية بقدرتها على عزل قواها ما امكن وعدم السقوط في هوة التقاتل المذهبي.
يوم تشييع اللواء الحسن الذي اغتيل في 19 تشرين الاول 2012، غزت الشائعات بيروت عن احتمال عودة الرئيس سعد الحريري الى العاصمة، من "منفاه القسري"، ولكنه لم يحضر. مرت سنة 2012 بكاملها لتضيف 365 يوما على غياب الحريري عن البلاد بالاضافة الى اكثر من نصف سنة في عام 2011. شكل هذا الغياب، ولا يزال، احد العناوين الكبرى للازمة السياسية التي فتحت يديها على الغارب في لبنان 2012 ليس من باب ابتعاد زعيم الاكثرية "السابقة" ورئيس الحكومة السابق وابن رفيق الحريري وزعيم "تيار المستقبل" لدوافع امنية فقط، بل للخلل الهائل في موازين القوى السياسية الناجم عن "حرية مطلقة " لفريق يقبع في السلطة ويمسك بزمام الامور على هواه من جهة و"التقييد المطلق" لفريق المعارضة المستهدف بالاغتيالات ومحاولات الاغتيال من جهة اخرى. خلل لم يلبث ان تفجر في ازمة سياسية اخرجت فريق 14 آذار عن انماطه السابقة المعتمدة ليتحول الى انماط جديدة لم يعد يجد في حوزته من اوراق سواها عل شريكه الخصم الذي سبقه اليها يفهم بلغتها، كون هذا الفريق "يقدس" معايير القوة ولا يقيم اعتبارا الا لورقة ميزان القوى.
بدأت الازمة السياسية تأخذ مسارها التصاعدي عقب محاولتي اغتيال جعجع وحرب ثم انكشاف ملف ميشال سماحه. الاستهداف الامني دخل متوهجا على المجريات السياسية لتبدأ لائحة الضحايا بما سمي الحوار الوطني في بعبدا.
اساسا رسمت الجولات المتعاقبة لهذا الحوار في سنة 2012 مسارا عبثيا له اذ دارت في مجملها على رتابة مراوحة لم تقدم ولم تؤخر شيئا في وضع الاستراتيجية الدفاعية. لكن قوى 14 آذار فصلت فصلا تاما بين دور رئيس الجمهورية ميشال سليمان وموضوع الحوار ومواقف قوى 8 آذار ولا سيما منها "حزب الله" تحديدا منه.
يمكن القول ان الرئيس سليمان يخرج من السنة 2012 بموقع معنوي وسياسي ذهبي لم يعرفه منذ بداية ولايته. ومنذ نشوب الازمة السياسية في الثلث الاخير من السنة، حظي الرئيس سليمان بدعم دولي وداخلي غير مسبوق وصل صداه الى الامم المتحدة. بات الان البديل من ضائع التدخل الدولي والخارجي المألوف في الشؤون اللبنانية، وتقف عنده وحده ملامح التوافقات الخارجية والداخلية على دوره كجسر تواصل وحيد مؤهل لصيانة تسوية لبنانية تمرر مرحلة العبور الى الانتخابات النيابية.
بعد الحوار، حل قانون الانتخاب في المرتبة الثانية من ضحايا الازمة. اخفقت المؤسسات الدستورية من مجلس الوزراء الى مجلس النواب ومعها سائر القوى السياسية في التآلف والتوافق على قانون انتخابي جديد ودهمت المهل الدستورية المتسارعة الجميع فاحتدمت المعركة الناشبة على آفاق الانتخابات وقانونها لتورث السنة الجديدة كل الاحتمالات الغامضة الناجمة عن الانقسام والقطيعة والمقاطعة وفي مقدمها احتمال تأجيل الانتخابات وعودة لبنان الى "تقليعة" التمديدات المختلفة. ومع انه لا يزال احتمالا، فان اسهم التأجيل والتمديد راحت تنمو بقوة في ترددات المأزق الآخذ في الاشتداد مع ملامح استعصاء الحل وانعدام آفاق اي محاولة توافقية جدية اقله حتى نهاية السنة. كما ان تسارع التطورات الميدانية في سوريا وتدفق الاعداد الهائلة للنازحين منها الى لبنان، باتت ترسم خطا بيانيا قاتما حيال الاشهر الستة المقبلة في لبنان باعتبار انه سيواجه فيها لحظة الحقيقة النهائية على الارجح في ظل تنامي المؤشرات الميدانية والدولية الى الانهيار المرتقب للنظام السوري.
صدت قوى 8 آذار مع حلفائها الوسطيين كل محاولات 14 آذار لتغيير الحكومة، وسط حدين اقصى وادنى. وضع الامين العام لـ"حزب الله" السيد حسن نصرالله الحد الاقصى برفضه تغيير الحكومة حتى الانتخابات. ووضع الرئيس ميقاتي الحد الادنى بطرح سلة مزدوجة ربط فيها تشكيل حكومة جديدة بوضع قانون جديد للانتخابات.
واسقطت قوى 14 آذار كل شروط التسوية والعودة عن المقاطعة وعلقت الازمة على تشكيل حكومة حيادية تشرف على الانتخابات.
يدخل لبنان الى سنة 2013 مثقلا بكل عدة التأزيم هذه. لم ينفجر في سنة 2012 ولكنه يشارف الانهيارات الكبرى في كل شيء. فهل تراه يتمكن من الامتناع عن الانتحار في اشهر الحسم السورية المقبلة؟
  

السابق
نقل جثة لبناني من اسرائيل عبر الناقورة
التالي
رابطة الثانوي أمام استحقاق انتخاب هيئتها