المسيح الفلسطيني وهيرودوس اللبناني

غداً، ذكرى ميلاد المسيح في بيت لحم.. العالم يتذكر يسوع ومريم ويوسف والمجوس. يقلد العالم المغارة، ينقلها إلى بيته ويضعها إلى جانب شجرة مزدانة بالأفراح وألوان الأمنيات.. العالم يأخذ المذود إليه، ينقل بيت لحم إلى حضنه، ونادراً ما يأخذ فلسطين معها، ونادراً أكثر ما يتذكر خريطة البشارة المسيحية وجلجلة العذاب وصخرة القيامة. في مثل هذا اليوم من كل عام، تحضر المغارة ولا تحضر فلسطين.
لا يجدر تنغيص الأفراح بالهموم، فلدى هذه البشرية التاعسة أيام عديدة تتداولها على مدار العام، تلو العام، تنشغل فيها بقضايا مدنفة وشعوب تنزف وبلاد حلت فيها لعنة الحرب واستقرت.
إلا ان هناك ما ينغّص هذا اليوم. ليس النسيان ما يجعل العيد ناقصا، ليس الاعتياد على مسيح بسحنة غربية ما يمنع الاحتفاء بالمناسبة بالغبطة الضرورية، ليس لأن فلسطين لا تزال معلقة على خشبة… فكل هذا اعتاد الفلسطيني عليه، وهو يحصي آلام عمره ويعدّ مسامير صليبه ويسفك بسخاء دمه من أجل قيامته، ولو وحيداً، بلا معجزة إلهية أو… عربية، أو… دولية.
ما ينغّص هذا اليوم، استعادة العنصرية اللبنانية المقيتة، للغتها وفجورها، إزاء الفلسطيني، على ألسنة وزراء ونواب ووسائل إعلام، محسوبة طائفياً على المسيحيين ـ مع ما في هذه الحسبة الطائفية من بذاءة وانحطاط ـ تطالب بإقفال الحدود اللبنانية، كي لا يتدفق الفلسطينيون إلى لبنان…
دين المحبة في المسيحية، يتحوّل عند ورثة الميليشيات العسكرية، إلى دين الكراهية والبغض والنبذ والحرمان.
لو أن هذين «الفتيين» المسؤولين قد عرفا الحرب اللبنانية، لأدركا في أي دَركٍ هما، على المستوى الإنساني. لغتهما، لغة عصابات الحرب اللبنانية، ببذاءاتها كلها.
لكل فرد من أفراد العائلة، الملتمة كونياً حول المذود الفخم، هدية العيد. العيدية تسمى عندنا «البسترينة». إلا الفلسطيني، عيديته إهانة له: «أيها الفلسطيني، أنت غير مرغوب فيك». «لا حق لك وكل الحق عليك».

منذ تطور الأزمة السورية ودخولها منعطفات العنف، والنازحون يتدفقون على دول الجوار، تركيا والأردن ولبنان. ولا شك بأن النزوح الكثيف للسكان، يخلق عدداً من المشكلات، عانتها الدول التي صدف أن جاورت حروبا قريبة منها… احدى حتميات الحروب، الأضرار المباشرة التي تسببها لجيرانها، وكثافة النزوح أبرزها، وتحوّل النازح إلى مقيم شبه دائم، مع ما يترتب على الدولة «المستضيفة» من مسؤوليات إغاثة مكلفة وباهظة. وعرفت المنطقة موجات من النزوح، لكثرة ما تعرضت فيها إلى حروب متعددة؛ حرب النكبة، صدّرت لسوريا ولبنان وشرق الأردن الموجة الأولى من اللاجئين الفلسطينيين… حرب حزيران، صدّرت أعداداً مضاعفة… أيلول الأسود، دفع بآلاف الفلسطينيين من الأردن إلى سوريا فلبنان، فتحوّل بعدها البلد بكامله تقريباً، إلى «فتح لاند»، مع ما تكبده لبنان من عنف هز صيغته الميثاقية، التي لا تزال ترتج حتى اليوم… حروب لبنان المتناسلة شلّعت النسيج اللبناني، وعرف البلد موجات نزوح داخلية وأمواجاً من المهاجرين الذين لجأوا إلى بلاد الله الواسعة… حرب العراق شرّدت العراقيين في المنافي النائية، فيما العبء الأكبر كان على سوريا… وأخيراً، الفتنة السورية الكبرى، التي دفعت بأمواج النازحين إلى تركيا والأردن ولبنان.
مأساة جارك تصيبك. الحروب ليست نعماً إلا لتجار الحروب. ولمن يفوز بها، ويحصي أرباحه وهو يقف على الجماجم.

لقد خشي لبنان من انعكاس حركة النزوح السوري إليه، ولكن «العناية الطائفية»، أنقذت السياسة المرتبكة لنأي النفس. ففيما كانت الحكومة تتعامل مع هذا الملف بخفر شديد وحرص على عدم استفزاز أحد، وتغاضياً عن تفلت أمني هنا وآخر تجري معالجته بالتراضي هناك، قامت الطوائف باحتضان أنسبائها السوريين، فاهتم أهل السنة بالسنة النازحين، و«أهل البيت» بالشيعة المهجرين، والدروز لم يشذوا عن مكارم الضيافة. أما المسيحيون، فقد تكفلت بهم الكنائس حيث استعفت الأحزاب والتيارات.
وبالفعل، برهن اللبنانيون أنهم أوفياء لأبناء مللهم، وطوائفهم. وعلى الرغم من العيب الإنساني في هذا التفضيل والانتقاء، فلقد كان على الطريقة اللبنانية، أفضل الممكن.
الإحصاءات تشير إلى ان لبنان حظي بالعدد الأكبر من النازحين السوريين، وان الأرقام تشير إلى ما فوق المئة ألف سوري. وبرغم تضخم الأعداد، فإنه لم تصدر عن أي فريق لبناني لغة عنصرية إزاء السوري، لقد طفا التصنيف السياسي على الانقسام اللبناني: مع النظام وضد النظام، أو مع المعارضة وضد المعارضة، وان كان هذا التصنيف يضمر انقساماً طائفياً له تفسيراته في الداخل وتجلياته على مستوى الإقليم، قبل اندلاع الثورة في سوريا.

أليس غريباً أن ترتفع عقيرة العنصريين، بعد كارثة مخيم اليرموك الفلسطيني في سوريا، وتسرب أقل من خمسة آلاف فلسطيني إلى لبنان جاؤوا إليها خوفاً من موت يحصد المدنيين.
150 ألف سوري بين «أهلهم» في لبنان، لم يثيروا حساسية اللبنانيين الأقحاح، أصحاب الفكر الاصطفافي، الذي يذكرنا بأجداد القومية اللبنانية، وأصحاب نظرية «الجبل الملهم» لشارل قرم.
خمسة آلاف فلسطيني أثاروا عقيرة الوزير جبران باسيل و«الجنرال» السياسي سامي الجميل، الذي يحاول استعادة مجد عمه بشير، الذي نعت الفلسطيني قبيل مذبحة صبرا وشاتيلا، وبعيد مذابح تل الزعتر، «بالمجوِي والمقلْعَط».
مؤسف، أن هذه الأصوات العنصرية الفاقعة، ظلّت طليقة، فلم تستنفر أحداً ليقف في وجهها.. مؤسف ان لا يتصدى لطلب إغلاق الحدود، غير الرئيس نجيب ميقاتي، فيما وزير الخارجية، كان يفكر بإقفالها.. مؤسف أن رجال الدين، مارسوا الصمت، فيما تصريحاتهم لا تتوقف أبداً.
إنه لأمر ينغّص علينا عيد الميلاد. وإذ نقف أمام المذود في بيوتنا، ونتأكد من هوية يسوع الفلسطينية، يخرج من لبنان هيرودوس، الذي قيل عنه، إنه عندما عرف بولادة المسيح، أمر بذبح الأطفال، كي لا يكون بينهم مخلّص.

كم هيرودوس عندنا؟
ان في لبنان شياطين كثيرة، أشدها فتكا، شياطين العنصرية، التي تمارسها طائفياً ومذهبياً وعرقياً، وتصطفي من بين خلق الله، الفلسطيني لكي تصلبه، كما طلب يسوع، انما هذه المرة، بأيدي من سيدّعي الانتماء إلى «النقاء المسيحي»، الذي هو بلا روح.
أيها الفلسطيني، لك مسيحنا، ولهم ما يشبه عدو المسيح.  

السابق
ثنائيات أم تاريخ مأزوم؟
التالي
الملاريا تعود إلى شمال مالي