اسم القتيل

قبل سنوات كان باستطاعة المرء أن يقول:»أنا عربي». وكان يصدق ما يقول. ويعتقد أن هذا الانتماء بوليصة تأمين. أو وسادة منسوجة من شراكة في اللغة والتاريخ والحضارة وفي غالب الأحيان الدين. وكان السوداني مثلاً يعتقد أن خيطاً يربطه بالعراقي مهما تباعدت المسافات. وأن المصير مشترك في النهاية وبغض النظر عن العلاقات بين الأنظمة والحكام. وأن الضعف العربي يجب أن يكون عابراً. وأن الأمة قادرة على النهوض مهما تأخرت. وأنها ستأخذ موقعها الطبيعي بين الأمم التي مرت هي الأخرى في فترات انحدار وانحطاط. وكان العربي يتعاطف مع شقيقه العربي إذا احتلت ارضه. أو ضرب مدينته زلزال. أو ابتليت دولته بمستبد يبدد الأرزاق والأعناق.

لا شك في أن العربي كان يشعر بالامتعاض والاشمئزاز من تجار العروبة. من الذين كانوا يرفعون الشعارات لإدامة التسلط وتغطية الأنين المتصاعد من الزنزانات. ومن الأكاذيب التي كانت تبرر التسلط والتدهور الاقتصادي بمستلزمات المعركة المقدسة. وعلى رغم ذلك كان العربي يرى في انتمائه هذا ضمانة ضد تمزيق الهوية والكيانات وفتح الباب لانتماءات اصغر لا تعد إلا بحروب أهلية ومواكب طويلة من الجنازات.

لنترك الأكاذيب جانباً. ومعها الإفراط في الديبلوماسية والتهذيب. هل تستطيع عزيزي القارئ أن تقول اليوم «أنا عربي» بالطريقة نفسها التي كنت تقولها قبل سنوات؟. ألا تشعر بقدر من الارتباك والخجل قبل أن تتلفظ بهذه العبارة المقتضبة؟. اغلب الظن انك تفضل تفادي مثل هذا الإحراج. ثم إن كل ما تسمع وتشاهد يوحي أن من كنا نسميه العربي غادر إلى غير رجعة. لا غرابة أن يكون قتل في واحدة من تلك الحروب الأهلية التي تعصف دورياً ببلداننا. أو يكون سقط بين ضحايا عملية انتحارية نفذتها «القاعدة» وأخواتها. وربما يكون اختنق تحت وطأة الشعارات والأكاذيب.
لا تسارع عزيزي القارئ إلى اتهامي باليأس أو المبالغة. ولنفترض انك في بيروت أو دمشق أو بغداد أو صنعاء أو البحرين أو غيرها. هل تستطيع القول اليوم انك عربي كما كنت تفعل قبل سنوات أم أن هويتك الحقيقية أضيق من ذلك بكثير وأضيق حتى من حدود الدولة التي تحمل جواز سفرها؟.
تمزق رداء العروبة التي كانت تتسع لكل أبناء الأرض العربية. انظر إلى ما يدور في بلادك. هل تنتابك المشاعر نفسها إذا سقط قتيل من منطقة يغلب على سكانها انتماء مذهبي آخر؟ هل تسارع إلى السؤال عن الانتماء المذهبي لأهل الحي الذي انفجرت فيه سيارة مفخخة؟ انطلاقاً من أي دوافع تناصر هذا الفريق العراقي أو ذاك؟ وانطلاقاً من أي معايير تناصر الثورة السورية أو النظام؟. وكيف تفسر انقسام اللبنانيين والعراقيين حول الحريق السوري المجاور؟.

تمزق رداء العروبة الرحبة المتسامحة مع الأقليات العربية وغير العربية المقيمة منذ قرون. أوليس غريباً أن لا يعثر نوري المالكي على شريك جدي من تكريت أو الأنبار؟ أوليس غريباً أن لا يتسع العراق لنوري المالكي ومسعود بارزاني؟ وأن لا تتسع بيروت لحسن نصرالله وسعد الحريري؟ وأن يتصاعد الكلام في سورية عن دويلات متشابهة لينام العلوي في إقليمه والسني في إقليمه والكردي في منطقته ويقف المسيحيون على أبواب السفارة الكندية؟ أوليس معيباً أن نسمع أن إشكالاً دامياً حصل في قرية مصرية بسبب شائعة وأن التسوية التي رعتها الشرطة قضت بابتعاد الأقباط من أبنائها؟. هذه ليست مصر وتلك ليست سورية وذلك ليس لبنان.

اعرف أن قتلى كثيرين سقطوا في هذه الدولة العربية أو تلك. وأننا في بدايات مرحلة ولسنا في ختامها. لكن اخطر ما حصل بعد تمزق رداء العروبة هو سقوط قتيل استثنائي حاولنا إخفاء هويته. واسم القتيل هو التعايش. إننا نحب الأقاليم «النظيفة». والمناطق التي لا يلوثها «الآخر». ولهذا تتفكك دولنا وتتآكل مدننا ويجتاحها المقاتلون الجوالون حاملين قاموساً جديداً والكثير من النعوش.  

السابق
عن خطاب الحقد العنصري المعيب!
التالي
الابراهيمي يلتقي الاسد: تبادلنا الرأي حول الخطوات المستقبلية