مسؤوليات وطنية

مع كل يوم يمر على محنة سوريا الوطنية الكيانية يزداد الخطر المباشر على لبنان. وفي أقل تقدير فإن تداعيات الأزمة لا يمكن حصرها في المدى المنظور حتى لو كان في الأفق احتمال، وهو ضعيف جداً، لحل سياسي. حجم الفوضى المسلحة ووجود المجموعات التي تنتمي إلى تيار «القاعدة» التكفيري القتالي أمر لا جدال فيه، ولا في سهولة عبوره إلى لبنان بأهدافه السياسية المعلنة، وبحالة تسيّب الحدود وهشاشة الوضع الداخلي.
يكابر اللبنانيون حين يعتقدون على ضفتي الانقسام أن نهايات الأزمة السورية قريبة أو أن نتائجها محصورة في التوازنات السياسية. ما يدور في سوريا من حرب داخلية وخارجية جزء من مشهد مشرقي واسع يشمل ملفات العراق وفلسطين والأردن ولبنان ومن خلال ذلك إيران، وربما تدحرج من تركيا إلى وسط آسيا. هذا «الشرق الأوسط الجديد» الذي يسعى إليه الغرب، وتوهّم بعض أطرافه المحليين، أنه سيكون «شرق أوسط إسلامياً» ليس إلا مخاضاً عسيراً من التفكيك والتركيب للمكوّنات، لا نعرف بعد مدى عمقها واتساعها، ولا نستطيع رؤية صورتها المستقبلية قبل اكتمالها.
لكن ما قيل عن صراع «سني ـ شيعي» ليس إلا أحد العناوين في منطقة مزركشة بالأعراق والأديان والثقافات، ومخترقة بكل المصالح والتيارات الدولية. وليس مغالياً القول إن انهيار منظومة العروبة بفشل تيارها السياسي الجامع قد أسقط الحدود التي كانت تحجب وتصد المطامع الإقليمية القريبة (إيران، تركيا، إسرائيل). وليس أدل على ذلك من قبولنا وتكيّفنا، واستسلامنا عملياً لحال التدخل والتقاطع والتواطؤ العربي مع هذه القوى الإقليمية.
لا تقنعنا طبعاً سهولة الحديث عن خرائط تقسيم المنطقة إلى دول جديدة وفق مخططات جاهزة يضعها الغرب على أساس الأعراق والطوائف. لطالما تردد هذا الحديث منذ سبعينيات القرن الماضي.
ولماذا تقسّم المنطقة طالما أن الطرف المهيمن هو الغرب الأميركي ومع مَن مِن الجهات الدولية يجري هذا التقاسم وعلى أي أساس؟ لعلنا نعيش في ظل شائعة كبرى يُراد من خلالها تحريض عناصر الانقسام والشرذمة السياسية تمهيداً لإعادة فرض الوصاية الغربية ولو بشيء من حفظ مصالح القوى الدولية المعترضة كروسيا من أجل تأمين بعض الشروط الأمنية والاقتصادية لها. في الواقع نحن أمام فوضى عارمة هدفها شلّ إرادة الشعوب العربية ومنعها من بناء نموذج دول سليمة التكوين وأنظمة ذات شرعيات قوية نابعة من خيارات شعوبها. وإذا كان هناك من احتمالات للتقسيم فهي مسؤولية هذه الشعوب وأنظمتها وقياداتها وليس في الأمر شبهة خرائط دولية جاهزة. فما الذي يقسم مصر غير محاولات احتكار السلطة من قبل الإسلاميين وفرض عقيدتهم السياسية الدينية على مجموع الشعب المصري؟ وما الذي يعيد طرح مسألة تقسيم لبنان إلا ثقافة الإقصاء والهيمنة والاستقواء ورفض الحوار على مشتركات هذا الكيان وركائز هذه الدولة؟ وما الذي يقسم سوريا غير إنكار الآخر ومحاولة إخضاعه بقوة العنف الهمجي والهروب إلى الأمام في لعبة الإلغاء؟ لا يمكن أن نعالج مشكلاتنا بإلقاء مسؤولياتها على الخارج. لسنا وحدنا في العالم مجتمعات متعددة التكوين متنوعة الثقافات الفرعية. مشكلتنا ليست بهذا المعنى «طائفية» ووجود طوائف، بل في عجزنا عن إدارة هذا التنوّع بالسياسة وبالاعتراف بالآخر وبالرغبة في العيش سوية خارج المفاهيم الحصرية الدينية أو الإيديولوجية. فإذا كنا لا نستطيع الاتفاق على
قانون انتخاب يؤمّن صحة التمثيل وتكافؤ الفرص، أو كنا لا نريد تطبيق دستور اتفقنا عليه ونخادع في التحايل على أحكامه، فلن تنقذنا من هذه الورطة كل المشاريع السيادية والتحريرية. نحن مسؤولون عن تلاعب الآخرين بمصائرنا وليكف الزعماء والقادة عن أي حديث عن «مؤامرة». علينا أن نخجل أو نتواضع على الأقل حين نطلق العنان بالحديث عن قضايا أو معارك كبرى. نحن «قوم» فشلنا في حل أزمات صغيرة ونغطي عجزنا بقوة لم تعد وحدها معيار النجاح والفشل.
تستدرجنا الطبقة السياسية بكافة فروعها إلى معارك لا صلة لها بالتقدم الإنساني. تصادرنا النخبة السياسية الحاكمة لأهدافها السلطوية وتمنع علينا التفكير في أولويات العيش الكريم. التكفيري القتالي هو نموذج أقصى لفكرة أن لا شيء في مقدورنا على حل مشكلاتنا بالعمل السياسي، ومن دون عنف، وعلى هذه الأرض وليس في السماء.
في أعماق كل واحد منا بذرة من هذا «القتالي التكفيري». تضغط علينا الأنظمة السياسية و«الأحزاب» إذا كان جائزاً تسميتها كذلك، لكي نرفض نمط الحياة السائد. ولا ندري كيف يمكن لنا أن نكون أسرى انقسام وطني مجتمعي فلقتاه طائفيتان وممارساتهما واحدة.
لا مكان للديموقراطية أصلاً في الولاء غير المشروط. الديموقراطية هي الولاء المشروط و«النعم» و«اللا» في أمور تفصيلية تتصل بالمواطن ولا تتصل بالإيديولوجيات الكبرى. انقسامنا اليوم قبلي ومعظم الناس لا يطيقون أن يكونوا خاضعين لمنظومة القيم القبلية، لا نسباً ولا ولاءً. قد لا يستطيع الناس «العُزّل» من قوة المال أو السلاح أن يردعوا الآخرين عن مشاريعهم وأوهامهم، لكنهم بدأوا يديرون ظهورهم لهذا العبث السياسي ولهذا الاستهتار بأمنهم وحياتهم.
لا يعقل أن تستمر بعد لعبة التذاكي على الناس وشكوى المسؤولين أمامها. من يتحمل مسؤولية الناس عليه أن يقوم بواجبهم ولا يقترح أفكاراً تذهب أدراج الرياح.
  

السابق
واشنطن في سورية: مساران لا ثالث لهما
التالي
حزب الله يبذل جهوداً جبارة للحفاظ على علاقته بـحماس