الجهل في العراق وسلطة الأميين

العراق الذي سطر الحرف الأول في تاريخ البشرية تعاني أجياله اليوم و بشكل مفزع حالة مريعة من الجهل و التجهيل , لدرجة أن التقارير المحلية والدولية باتت تتحدث عن تخريج دفعات سنوية هائلة من افواج الأميين حتى على المستوى الجامعي, وذلك ليس بالأمر الغريب في بلد عانى بشدة من تقلبات السياسة ومن حالة الحروب و الفتن الدائمة ومن سيطرة ميدانية واسعة وفرتها مساحات الفوضى الأمنية وغياب الدولة المركزية القوية للجماعات الطائفية الجاهلة من طرفي الصراع الرئيسيين , ويتحمل النظام البعثي الصدامي السابق بحروبه وعبثه ومغامراته و إدخاله البلاد في متاهات الحروب و الحصار الدولي مسؤولية واضحة بهذا الصدد , فحين إستلم الرئيس السابق صدام حسين قيادة العراق في صيف 1979 وأنفرد وعصابته بالسلطة والقرار في العراق كان البلد يعيش حالة رائعة من التطور الثقافي و العلمي ومن وجود أجيال مثقفة و متعلمة و كوادر علمية متخصصة نجح نظام الرئيس الراحل أحمد حسن البكر وهذه للحقيقة و التاريخ وإنصافا للحقائق في غرسها , ففي عام 1974 كان النظام التعليمي العراقي وفقا لتصنيف اليونسكو مساويا للنظام التعليمي الإسكندنافي , وكانت مجانية التعليم التي أسست إعتبارا من نفس العام بمثابة بوابة تعليمية ساهمت في إزدياد مساحات التعليم وفي تقليص مساحات الأمية , كما كانت لسياسة وزارة الثقافة و الإعلام في طبع الكتب وبيعها بأسعار رخيصة جدا بسبب دعم الدولة لها دور فاعل في إقبال شبابي عراقي وقتذاك على القراءة و المتابعة رغم أحوال التشنج السياسي و الصراع بين نظام البعث و اليسار العراقي وحيث دخل العراق منذ صيف 1973 في أجواء إنفتاحية غير مسبوقة بعد إعلان الجبهة الوطنية و الإنفتاح على نشر الأفكار و المؤلفات و إزدهار المكتبات بروادها و كتبها و أفكارها التي كان بعضها يتعارض مع توجهات و أفكار السلطة التي كانت أقل شراسة من المرحلة التي شهدت صعود تيار صدام حسين وجماعته , لقد كان لقوانين عودة الكفاءات العراقية من الخارج وبالتالي إزدهار التعليم الجامعي و المقاييس والضوابط الصارمة في تعيين المسؤولين عن حقول التعليم و الثقافة في العراق دورها في إيجاد حياة تعليمية وثقافية راقية و متقدمة جدا في العراق وقتذاك وحيث كان جيلنا من طلاب الجامعات شعلة متدفقة من الذكاء و العطاء و النهم الموسوعي و الإنفتاح على الأفكار في العالم إضافة لنشوء أجيال شبابية من المهتمين بعوالم التكنولوجيا و الهندسة والطب ما جعل من العراق خزاناً للثقافات وطبعا لا نتجاهل مجالات الأدب و الشعر و الرواية و الموسيقى و الغناء , فمرحلة السبعينات كانت ثرية وحافلة بالعطاء و الإبداع رغم قساوة الظروف و تسلط آلة القمع الأمنية المعهودة , أما اليوم ورغم دخول العالم في الثورة الرقمية و التكنولوجية الهائلة وخضوع البلد للإحتلال الأميركية الذي ينبغي ألا نتجاهل تأثيراته الثقافية و العلمية أسوة بكل التجارب التاريخية فلولا إحتلال نابليون لمصر ماحدثت النهضة العلمية في مصر أيام محمد علي باشا والتي إستمرت متصاعدة حتى أجهضها العسكر و جيل ( البكباشية ) عام 1952 , ولولا التلاقح و التفاعل الحضاري بين الشعوب ولو عن طريق النزاعات العسكرية ماشهد العالم باسره تطورات عدة , ولكن الحالة العراقية جاءت بشكل إنتكاسة حضارية هائلة وردة جاهلية غير متوقعة , فمن أدار العراق بعد مرحلة الحصار المهلك ومن ثم الإحتلال المرهق و التداعيات الدموية التي أعقبته لم تكن أطرافاً طبيعية بل كانت جماعات عصابية متوترة و متخلفة وعدمية وحاقدة لاعلاقة لها بالثقافة والعلم و لا حتى بالأخلاق , ورغم أن بعضها كان مقيما في الغرب لسنوات طويلة إلا أنه لم يتعلم من الحضارة الغربية شيئا لأنه يعيش على هامشها وبعيدا عن مرتكزاتها الأساسية , فالأحزاب التي تناوشت السلطة وألتهمت مؤسسات الدولة العراقية و تقاسمتها كالضباع الجائعة الجرباء لا علاقة لرموزها وقياداتها بأي ثقافة إنسانية أو بشرية!! بل كان أولئك القادة ينحدرون من ثقافة سراديبية بائسة وحاقدة على البشرية ما ساهم في صياغة وصناعة التخلف بل زرع جذوره ومرتكزاته في الحياة العراقية العامة , تصوروا أن وزير التربية السابق و نائب الرئيس العراقي الحالي الملا ( خضير الخزاعي ) قدس سره قام بعملية إحتقار كارثية للثقافة العراقية حينما أهمل مطابع العراق الشهيرة التي ناضلت طويلا في مقارعة الفكر الفاشي وقام بطباعة الكتب المدرسية العراقية في مطابع الأحباب في طهران, إضافة لمسؤوليته الكبرى و المباشرة في تخريب المدارس العراقية عن طريق الغش الفظيع و الفساد الكبير في إقامة مدارس بهياكل حديدية لم تر النور لذلك فحالة المدارس العراقية حاليا مأساوية و متهالكة وحيث يحشر العشرات في الفصل الدراسي الخالي من الأثاث و اللوازم ومن التجهيزات الصحية الملائمة للعمل التعليمي ما جعل نسبة التسرب بين الطلاب من أعلى النسب في العالم , أما على مستوى التعليم العالي و الجامعي فحدث ولا حرج بعد أن تحولت الجامعات لمراكز دينية وطائفية لاهم لها سوى اللطم و إحياء المراسم الدينية و التسابق في مهرجانات الولاء للأحزاب الطائفية التعبانة و المتخلفة التي سادت , وكيف يكون مستوى التعليم العالي متميزا بعد أن جاء حزب الدعوة بأحد قياداته ( الطهرانية ) وهو المدعو علي زندي ( الأديب ) ليكون وزيرا للتعليم العالي و البحث العلمي وهو لا يحمل أية شهادة دكتوراه معترف بها سوى تلك الصادرة من ( حوزة المرتضى ) بحي السيدة زينب الدمشقي والتي تمنح شهادة الدكتوراه!! وطبعا صاحبنا الوزير و البروفيسور الدعوي الرهيب لايعرف أي لغة حية دولية غير ( زبان فارس ) أي اللغة الفارسية لكونه من أهلها!! فكيف يكون مستوى التعليم مرتفعاً والقائمون على العملية التعليمية في جهلهم ينعمون!! أما وزارة الثقافة العراقية فهي في حالة تراجع مريع فلا وزير لها سوى وزير الحرب وكالة الرفيق البعثي السابق و الملا الحالي سعدون الدليمي المشغول بصفقات التسلح الروسية وعمولاتها الدسمة أما الثقافة فهي آخر إهتماماته و إهتمامات مولانا السلطان ( نوري القانوني ) الذي أحاط نفسه هو الآخر بجمهرة وشلة من المستشارين الجهلاء , بعضهم كان ميكانيكياً و متخصصاً في تغيير العجلات!! فيما البعض الآخر من أرباب الحرف كمساعد الحلاق أو بائع الخضار أو المهرب على الخط العسكري السوري اللبناني أو صراف العملات أو مسؤول اللطم و الطبخ في الحسينيات, بربكم هل هذه حكومة يعول عليها في تقرير سياسات تعليمية متطورة , لذلك لا نستغرب الإنحدار والتردي و الرداءة حينما يكون السيف بيد الجبان و المال بيد البخيل و الرأي عند عديمه, إنه العراق حيث يستوطن الجهل و النفاق ويزاح كل أهل الرأي و الحجا والفكر السديد, العراق يفور ويغلي و يبشر بإرهاصات تغييرية هائلة تقلب كل حسابات المتخلفين و الطارئين الذين سطوا على الحضارة ودمروا التاريخ.  

السابق
نقزة أميركية من الترويكا الإخوانية 
التالي
الجراح: نصرالله يستنجد بفريق 14 آذار