الفنان علي دهيني: حُلُمي ابتكار قرية تراثية من أعمالي الحِرفيّة

"هندسة الحرف" هي أبسط ما يمكن إطلاقه على حرفة علي دهيني الغريبة في أطوارها، حرفة جمعت الخط العربي بهندسة أسلاك النحاس، بل قدمت "عِدة" العامل بلوحة، حتى "مغرفة الأكل" القديمة وضعها في إطار خشبي، طرّزها يخيوط القش وعتَق ألوانها، ليقدمها الى الأخر بثوب فني متفذلك عن غيره.. و"هندسة الحروف النافرة بالأسلاك النحاسية" كما يحلو لدهيني تسميتهما، فريدة من نوعها في لبنان، وربما في الوطن العربي. فلم يسبق لأحد أن ألبس الحروف بثوب من أسلاك النحاس، وحده إبتكرها، ووحده حرص على أن يقدم المقتنيات القديمة بلوحة تراثية ناطقة.
جرار خشبية، و(سؤال عن طبيعة هذه الحرفة) هي ما يستقبلك عند مدخل منزله في بلدة الخرايب الجنوبية ، حيث يقع محترف دهيني البسيط، محترف أشبه بساحة تراثية قريبة من الطبيعة، كل شيئ داخلها قديم، فهنا تجد "غربال القمح " وفي زاوية أخرى "مُنخل الطحين ولوكس قديم" فيما تفترش لوحاته التي أتى بعضها على هيئة "جذوع الشجر"، الساحة حيث يجلس ليعمل ساعات طويلة من النهار، وبقربه تتوزع عدته البسيطة "لوح خشبي صغير ومجموعة حروف وشرطان نحاسية، وقطَّاعة ومقص أظاهر، وألـalitco، عدة مكنت دهنيي من إنتاج عمل يتميز بالإبداع الجمالي، يحاول ان يبرزه في حبكة كتابة يرسمها بطريقة فنية جدا".

فنّان بالفطرة
يعتمد دهيني الرجل الأربعيني تقنية عالية في حرفته، وهو الذي لم يتعلم لا أصول هذا الفن ولا فروعه، بل ولد من رحم الحاجة الى إبتكار جديد في عالم الحِرف اليدوية الفنية: "لم يكن واردا في بالي أن أخيط الحروف بأسلاك النحاس، فالفكرة كانت بعيدة، كنت أعمل في زخرفة البراويز، تعرفت عليها عبر إبن أختي الذي رسم وردة بأسلاك النحاس، أعجبتني الفكرة، وبدأت أحاول تعلمها وأول لوحة رسمتها كانت وردة وبقربها سنابل قمح " يقول دهيني.
وبعدها كرَت سبحة لوحات دهيني، حصد في محصلتها أكثر من مئة لوحة في الـ11 عام من العمل، تتوزع بين الأباريق الخشبية، اللوحات الحروفية، ولوحات "عدة الجدود" المنجل، الشاكوش، السكين، المغرفة، مدقة اللحم، الفرشاة القديمة، الى جانب اللوحات "الحروفية النافرة المتميزة". يتفنن دهيني بإستعادة تراث الجدود، فالمعول عنده تحول الى لوحة فريدة وبقربها تقف لوحة "الفرشاة القديمة تدل على عملي فهي فرشاة قديمة جداً، والمنشار أنا أستعمله في قص الخشب، السكين يعنيني كثيراً، وفي مجموعته يوجد الشمعدان، الأشجار والأزهار، براويز وأقبية تراثية، البابور وزهريات الورد وغيرها الكثير، والحبل على الجرار لإبتكار "قرية تراثية بسيطة، هي حلمي الذي آمل يوما أن أحققه".
في لوحات دهيني بريق مختلف، سوريالي تراثي في حد منه، بل كل واحدة لها ميزتها وجماليتها وهندستها، تراه يقول "لقد صنعت لنفسي هوية في عالم فني تراثي". بل عنّت على بالي رؤية تحويلها الى فن بحد ذاته" بهذه الثقة الكبيرة يتحدث دهيني عن "حرفة أبسط ما يقال عنها أنها "فن الأشغال الشاقة بلغة النحاس" يرمي بكلمته وهو المنشغل في إنجاز لوحتين امامه لمقولة شعبية، "كتبتها بخط فارسي، وبدأت برسمها بأسلاك النحاس بطريقة ذكية في عبقرية فذة".
تنهال الكثير من التعليقات على عمله، عمل يراه الأخر "أشغال شاقة" "كل لوحة تحتاج الى ساعات من العمل، "تبدأ من رسم الجُمل التي أريد خطَها بخط عربي يوازي بجماله جمال رسم الكلمات، ثم أبدأ بتقطيع الأسلاك النحاسية، بما يناسب حروف رسمتها". وغالباً ما يمضي دهيني يومه في العمل، الذي يعتبره "الصعب الممتنع، ليس سهلاً أن تكتب بالأسلاك، وبطريقة دقيقة جدا، ولكن الصعوبة تلك أدخلتني عالم المبدعين، حين أنجز ما أقوم به يتحول بنظر الجميع الى كتلة إبداعيه نافرة".
أول ما يستوققك في لوحات دهيني "صبغتها القديمة واحترافية ألعمل الذي تلمسه عبر دقة الهندسة، تبرزها الآية القرآنية التي كتبتها على شكل جذوع شجرة بطريقة فنية عالية"، لقد أقحم دهيني الخطوط العربية كلها في لوحاته فهول يقول "أعتمد اسلوباً شيقاً في التخطيط فيه من الغموض بقدر التحفيز" مبرراً الأمر "لأدفع متعقب لوحاتي ليفكر.. ليقرأ بشكل صحيح" أكثر من مغزى تحمله لوحاته التي تتوزع بين الآيات القرآنية والأمثال الشعبية والحِكَم "لأنني أريد للمرء ان يقرأ عبرة وحكمة لا يعرفها وهذا نقص وجدته سائداً فحاولت أن اقدمه بطريقة حِرَفية"… مضيفاً "أنا أقدم نوعا جديداً من الرسم النحتي للحروف في لوحة، عملي فريد وإبداعي وغريب في أفكاره رأيت خطوطاً نافرة كثيرة ولكن لم أر يوماً خطوطاً نحاسية نافرة، لقد كنت سباقاً في جمع عدة عملي في لوحة".
لقد نفذ دهيني لوحات من حَبّ "ألبلوط" وبزر الدراق وبزر الزيتون، "بل نفذت براويز من بزر الدراق وداخله رسمت العين، فحب الدراق يشبه العين"، يضع دهيني نفسه في خانة "ألمبدعين والمبتكرين في حقل التراث الذي يُحتضر، وأحاول أن أرممه"، يملك دهيني إكتفاء ذاتياً "بالمواد الاولية التي استعلمها، أحاول أن أستفيد من كل شيء أعثر عليه فالخشب مثلاً حولته إلى هيئة قصب، أجهد لأقدم نوعا مختلفا من فني" يقول وهو ينهمك في إنجاز لوحة جديدة لسكين قديم عثر عليه في الحقل: "سأضع بقربه شوكة قديمة وملعقة قديمة لتكون مجموعة تراثية في لوحة تذكر الجيل اليوم بالقديم الذي غاب عن الأذهان".

فنٌّ معقّد وصعب
يدرك دهيني " صعوبة فنه وتعقيده لذا يقول إن "لا شيئ يأتي من السهل" و"الإصرار على العمل يدفع للإبداع، لم أر مثل هذا العمل من قبل في أي مكان أنا الوحيد الذي أنفذ هذه التقنية من الحرفيات اليدوية، تحت إطار مخطوطات عربية وإسلامية وعِبرٍ وأمثال شعبية، كلها اكتبها بخطوط عربية جميلة"، يشبِّه دهيني حرفته بـ"حركة فنية يدوية مميزة، تحتاج فقط الى دعم وتلقف يدها لكي تنصهر بالواقع أكثر"، ولكن هل هناك من يتلقف لوحاته؟ هل يوجد من يدعمه أو يطلب شراءها؟ هل من يرغب في تعلمها وهل يريد توريثها الى أولاده؟ يضحك قبل أن يقول " هناك من يطلب مني رسم بعض اللوحات كأسماء حبيبين، أو لوحات من عدة الجدود خاصة في فورة إستعادة رونق المنازل القديمة التراثية، ولكن هذه لا تفي الحرفة حقها، ولا توسع رقعه إنتشارها، في ظل غياب الدعم الحكومي"، واكثر ما يثير حفيظته أن "أغلب الحرفيات تعيش صِراعين: صراع الحضور وصراع غياب الدعم وبينهما ماتت الكثير من الحِرَف اليدوية"… لا يوجد من يتعلم حرفة اليوم، إذ لا يشي "بإهتمام الشباب "بها الحِرَف"، بل تفوح رائحة اللامبالاة"، لافتاً إلى أنه تقدم بطلب الى نقابة الفنانين لكي "أقيمَ معرضاً للوحاتي منذ فترة طويلة وحتى الأن لم أحصل على رد، ف"غياب الدعم يحد من طموح الحِرفة، ويسبب يأساً كبيراً خاصة في ظل غياب سوق للتصريف"، وبنظر دهيني أن ندرة التشجيع الحكومي "تحد من تصريف الإنتاج، الذي بدوره يحد من الإبداع الحِرَفيّ".
  

السابق
أحمد بزون: لماذا نطالب المثقف بأخلاقيات ليست متوفرة فيه بالضرورة؟
التالي
بري: قطاع النفط أمل لبنان والأجيال القادمة