المجيدية… مزرعة الأمير مجيد ارسلان ذاكرة زمنٍ مضيء

تذهب إلى مزرعة المجيدية التي كانت عريناً لبطل الاستقلال المير مجيد ارسلان. وتقف على أطلالها لتقول: فعلاً اشتقنا لزمن كان للشرف والشجاعة فيه معنى! تقف على أطلال مزرعة المجيدية، وقصر المير مجيد المدمر لتجد صفحات أشخاص تحاكي ذاكرة الزمن. وإذا لم نحفظ تاريخ وتراث هؤلاء الأشخاص؛ سيأتي زمن يأبى فيه أبناؤه الانتساب إلينا. ولدى معاينة أطلال هؤلاء القادة والوقوف على تراثهم؛ تتأكد أنهم لم يفعلوا شيئاً خفية. ومن يذهب إلى المجيدية اليوم يتأكد أن ما من شيء مستحيل. فقد توجد طرقات إلى جميع الأشياء. ومزرعة المجيدية المدمرة اكتنفت في حناياها أسراراً وذكريات لمجموعة من رجال الوطن، كان المير مجيد يستضيفهم في ربوعها، منهم من كانت العصا في يده. ومنهم من كان الحق في فمه؛ ليكتبوا تاريخ لبنان بالحق والعدل والقسطاس…

المير مجيد صهر حاصبيا
فالمجيدية اسم معروف في عالم المزارع والمنتجعات الجميلة في الجنوب. اقترن اسمها باسم المير مجيد ارسلان بعد أن كانت مزرعة مهملة منسية قرب سهل الماري على الجانب الغربي من وادي خنسا على أقدام العرقوب؛ وعلى الجانب الشرقي من بلدة العباسية "النصف محررة"، على مشارف سهل الحولة المحتل، تشتهر بشجر الخروع. والمجيدية مزرعة كان اسمها سابقاً "الخرويعة". ولما أصبح المير مجيد صهر حاصبيا، واقترن بكريمة المرحوم الأمير خالد شهاب؛ في النصف الأول من القرن الماضي. وصارت حاصبيا محطته شبه الدائمة؛ وامتلك أرضاً على الحاصباني في محلة عين تنورة حيث دارة نجله الأمير طلال اليوم؛ أعجب بها كاستراحة بعيدة عن الضوضاء وهموم السياسة. وخلال رحلة صيد إلى الحدود الجنوبية في "المقرن" الجنوبي الشرقي في المنطقة، وكان يرافقه ظله الدائم الأمير مفيد شهاب، وجيه العائلة الشهابية في السراي الشهابية في حاصبيا؛ ارتاح في ربوعها، وأعجب بمناظرها الخلابة وهوائها العليل؛ فاشتراها. وكانت تسمى "الخرويعة" كما سبق نسبة إلى معصرة قديمة كانت فيها تستعمل لصنع زيت الخروع الشهير؛ قبل تقدم الطب وتطور صناعة الأدوية. وكانت الأشجار التي تنتج حبوب الخروع منتشرة في كل حنايا الخرويعة. وزيت الخروع يستعمل لحالات مرضية عديدة. وعندما كنا أطفالاً؛ كنا نسمع بأن الأمهات يقدمن جرعات من زيت الخروع لأطفالهن. لشفاء المعدة من التقرحات والجروح وحالة "الكثام".

محجّة سياسية ومنتجع
وفي العام 1947 اشتراها المير مجيد من آل شهاب في حاصبيا، الذين كانوا يملكون أراضٍ واسعة في سهل الحولة مع آل زهوي وآل زين الدين، إضافة إلى عشرات العائلات الأخرى من حاصبيا ومنطقتها كما هي الحال مع عشرات العائلات من مرجعيون. ولا تزال عدة أحجار مستديرة ضخمة في باحة المجيدية، تذكّر بمعصرة زيت الخروع التي كانت تعمل فيها. وقد طمست التطورات الأمنية. والأعمال العسكرية والغارات الجوية الإسرائيلية معالم هذه المعصرة؛ كما طمست معالم تراثية كثيرة في الجنوب. فاشترى الأرض هناك؛ وأسماها المجيدية. وشق لها طريقاً زرع جانبيها بأشجار الكينا كما فعل على طريق الحاصباني قبل ذلك؛ حيث صُنّف مدخل حاصبيا، كأجمل مدخل في لبنان من قبل وزارة السياحة اللبنانية. المهم صارت المجيدية محط أسبوعية للمير مجيد، بعدما بنى فيها قصراً يستقبل فيه الزوار والسياسيين؛ وأصحاب القرارات السياسية في لبنان؛ من رؤساء ووزراء ونواب وشخصيات تمتلك القرار. وكان المير مجيد لا يرتاح، ولا يهنأ له عيش إن لم يزر المجيدية في عطلة نهاية الأسبوع لقضاء "الويك أند" السياسي فيها!… وهكذا تحولت المجيدية إلى محجة لشخصيات لبنان والجنوب. وإلى استراحة أسبوعية للمير وأصدقائه. وإلى منتجع صحي لمقربيه وللدائرين في فلكه. فيها اتخذت قرارات سياسية هامة.. ومنها صدرت أوامر عسكرية عندما كان يتولى حقيبة الدفاع. وإليها توجه الأنظار عندما كانت تعقد فيها "الخلوات" السياسية لتقرير مصير البلد إبان الأزمات الصعبة…

عهد ذهبي
وعاشت المجيدية عصرها الذهبي في الخمسينات والستينات من القرن الماضي، عندما كان لبنان يعيش عهده الذهبي استقراراً أمنياً وازدهاراً اقتصادياً. ونمواً سياحياً… ونجاحاً سياسياً؛ بحل مشاكل الإخوان العرب.. ومنتجعاً لا مثيل له، للحكام والمسؤولين "العروبيين" الذين تنكروا له بعد ذلك.
المهم، ظلت المجيدية على مدى عقدين ونيف من الزمن، صاحبة القرارات السياسية المهمة في البلد. ومزاراً دائماً لطالبي الوظائف والمواقع السياسية في لبنان ومنتجعاً صحياً وفكرياً لأصحاب الأفكار الراقية، والتطلعات المستقبلية في البلد.. ومركزاً صالحاً لكل من أراد الاستنارة برأي المير مجيد الصائب؛ وفكره الرائد.
والمجيدية كانت غنية بالزيتون والفواكه والخضار الصيفية العضوية… وكانت غنية بالحركة بعدما استقدم إليها المير مجيد العمال والمهندسين الزراعيين، لتحويل أرضها البور إلى أرض خصبة تنتج أهم أنواع الخضار والفاكهة. إلى أن كانت حرب حزيران 1967 التي قلبت الأوضاع رأساً على عقب.. وغيرت المعادلات.. وألغت الاجتماعات الأسبوعية في المجيدية. ودمرت الحياة الطبيعية في الجنوب. واستقدمت المشاكل والحروب والويلات للجنوب. وهجّرت المير مجيد من المجيدية تاركاً للعمال والمزارعين وشركائه في الأرض مصير قصر وأرض وتاريخ سياسي ووطني عريق.. ومسيرة استمرت عقوداً من السؤدد والعز والنجاح. واستهدفها الطيران الإسرائيلي أكثر من مرة أثناء التواجد الفدائي الفلسطيني في الجنوب. ودمر فيها المجد والتاريخ والتراث. وتحولت المجيدية إلى أنقاض تحكي قصة السياسة والمجد في البلد، وتروي حكاية الحكم الوطني الصارم النظيف؛ والظل الخفيف لحكام استبدلوا اليوم بحكام ثقلاء على البلد.

من منتجع إلى مهجع
وأتى الاجتياح الإسرائيلي الكبير للبنان عام 1982 ليحوّل المجيدية إلى موقع عسكري يدمر، بعدما كانت تعمر أيام المير المجيد. وبعده لمعهد تدريب عسكري لجماعة لحد ومن قبله الرائد حداد لتخريج الرتباء والأفراد ينطلق منها القصف المنشآت الحيوية من زراعية وإنمائية وعمرانية، بعدما كانت مركزاً لرسم الخطط الإنمائية والعمرانية في البلد أيام المير مجيد؛ وتعمير ما كان مهدماً في فترة الانتداب. وصارت المجيدية تشهد دورات تخريج عسكرية وزيارات لكبار المسؤولين العسكريين الإسرائيليين للإشراف على خطط التدمير والتهجير.. كما تحولت إلى مركز لاتخاذ القرارات بالاعتداءات والعمليات العسكرية خارج منطقة الجنوب. وتحولت من منتجع إلى مهجع. ومن مزرعة إلى دسكرة تنطلق منها الدوريات والطوابير المدرّعة لتنفيذ العمليات العسكرية المنوعة.. واقترن اسمها باسم الهجومات على مناطق ومحاور خارج ما كان يسمى بالحزام الأمني. وصارت جارة معتقل الخيام الذي استضاف المقاومين والشهداء والمناضلين طوال فترة الاحتلال…

بعد التحرير
فكان التحرير عام ألفين حيث استعادت المجيدية الاسم فقط دون العز والأمان دون الاحتضان والحرية دون السيطرة الهمجية أيام الاحتلال. وبدلاً من أن يعود إليها المير مجيد؛ عاد إليها أولاد المير مجيد لإلقاء نظرة على القصر المدمر. والأراضي المسلوبة والبيوت المنهوبة وللوقوف لحظة تأمّلٍ واسترجاع لذكريات الماضي عندما كان يصطحبهم المير صغاراً إلى قصر المجيدية. وقد عادوا إليه كباراً بالغين.. وبعد تقسيم إرث المير مجيد بعد وفاته في ثمانينات القرن الماضي؛ كانت المجيدية من حصة نجليه فيصل وتوفيق. بينما كانت عين تنورة وتوابعها من حصة الأمير طلال. ورمم فيها الميران فيصل وتوفيق بعض البيوت المهدمة للعمال والمزارعين. بينما أقام البعض الآخر من هؤلاء في مساكن وغرف كان قد أنشأها الاحتلال وجهزها لضباطه الذين كانوا يدربون عناصر ما كان يسمى بالجيش الجنوبي؛ جيش أنطوان لحد. ولإقامة هؤلاء فيها في مخيمات التدريب العسكرية. وتوفي بعد ذلك الأميران فيصل وتوفيق لتبقى المجيدية اليوم في عهدة الأميرة مهى كريمة الأمير توفيق تستثمر ما تبقى منها من زيتون وفاكهة كذلك عائلة عمها المرحوم فيصل التي تملك النصف فيها. وتعمل على إعادة ترميم وتأهيل ما أمكن من حصتها في المجيدية. وتجدد مشاريع الاستثمار من زراعة وتربية دواجن وطيور. وتقول الأميرة مهى: إذا اقتنعت بأنك على حق فيما تفعل فلا تهتم بما يقوله الناس عنك وفيك. إفعل ما تراه مناسباً حسب ما يمليه عليك ضميرك ووجدانك. إذ ما من شيء مستحيل؛ فقد توجد طرقات إلى جميع الأشياء. فالواجب ألا يبحث الإنسان عن أكبر لذة. بل عن أشرف لذة. وأنا أتابع عمل المرحومين جدي ووالدي في مزرعة المجيدية". وتضيف الأميرة مهى: أن الشيء الوحيد الذي يعلمنا إياه التاريخ أنه لا يعلمنا شيئاً. فتاريخ عائلتي هو الذي يعلمني. والحفاظ على تراثها هو الذي يصقلني.. وفي جولة في ربوع المجيدية. والوقوف على أطلالها. والإطلاع على حناياها سجلنا مشاهدات أعادتنا إلى زمن موغل في القدم. حيث الماضي العريق يحاكي الحاضر المسلوب. متطلعاً إلى المستقبل المجهول. بيوت مهجورة ومساكن مدمرة. ووحدة قاتلة، إلا من حضور الجيش اللبناني الذي تعيش المجيدية اليوم بكنفه تحت جناحيه وينعم أصحابها بالطمأنينة بانتشاره فيها.
  

السابق
واشنطن بوست: الأسد يستخدم صواريخ “سكود” وســـط صمـت اميركي
التالي
انفجار طيرحرفا استهدف مخزن صواريخ سورية اُحضِرت إلى لبنان