مبادرة الشرع: الفرصة الأخيرة

المتقاتلون على الأرض يغرقون في نتائج يومياتهم. مَن لديه الحكمة والوقت يقدر على المراجعة قليلاً. لكن، هل مَن هم خارج الميدان يفعلون ذلك؟
بعد ما مرّ على الأزمة السورية، صار بالإمكان الحديث عن الأزمة الوطنية الكبرى. تلك التي تقوم على انقسام سياسي وأهلي بخلفيات سياسية واقتصادية وطائفية واجتماعية. وهو انقسام كفيل بإشعال حرب أهلية دائمة، فكيف إذا كان العامل الخارجي قد تحوّل عنصراً محلياً بفعل التوغّل الهائل للدول الإقليمية والدولية في الأزمة السورية؟
وإلى جانب النتيجة الطبيعية لهذا التوغل، لناحية استمرار القتل والنزف، فإن الأخطر هو التراجع اليومي للعامل السوري المحلي كعنصر قادر على حسم الموقف. فلا يكون عندها أيّ طرف بقادر على حسم المعركة عسكرياً، ولا يكون بمقدور أيّ منهما التقدم خطوة نحو التسوية المطلوبة. وهذا ما يجعل السؤال في سوريا اليوم واضح: مَن يقدر على المبادرة؟
الجهات الخارجية منقسمة بقوة. الأميركيون وأوروبا الاستعمارية كما إسرائيل وتركيا، لا يهتمّون بكل ما يحصل من دمار وقتل. وليس صحيحاً على الإطلاق أن في هذه الدول مَن يرفّ له جفن إزاء مشاهد الموت، ومن السذاجة أن ننتظر من الرجل الأبيض رسالة تعاطف تشبه السيل الجارف من الرسائل التي تلقّاها باراك أوباما استنكاراً لجريمة المدرسة. ويوجد لدى الغربيين عموماً، والأتراك أيضاً، نوع من الصَلَف الذي يعزّز الشعور بالكراهية نحوهم. وفي لحظة العدم، لا يعود أيّ عامل يفيد في تقليص حجم الكراهية: لا الدين ولا العقيدة ولا العلوم، ولا كذبة الديموقراطية الغربية، ولا حتى حب الحياة!
فكيف ستكون الحال إذا أضفنا على هذا المشهد صورة عرب، حكاماً وأحزاباً وحتى مواطنين، ينخرطون بحماسة غير مفهومة لتسعير معركة القتل. ينفقون الأموال بطريقة مجنونة، ويعملون ليل نهار على نقل الأسلحة والمقاتلين كما وسائل القتل إلى داخل سوريا، وطبعاً، على شكل علب حليب وبطانيات وأنواع جديدة من البقول؟!
في المقلب الآخر، ترى دول المحور المقابل، أي روسيا والصين وإيران، أنها في حالة حرب تتجاوز مناصرة الحكم في سوريا. تتحدث عن أنها تخوض المعركة، وباقتناع عميق، على قاعدة أن نجاح مشروع تدمير سوريا سوف يكون له ما يطابقه على أراضيها. وثمّة كلام روسي وإيراني… وحتى صيني، نعم حتى صيني، عن هذه الهواجس. ويبدو لمَن يسمع هذا الكلام أنه يسمع، للوهلة الأولى، هذياناً لكنه حقيقة قوية، تستند أيضاً إلى اقتناع بأن الغرب (وهنا تسمع مفردات عن الغرب الصليبي، والغرب الوحشي، إلى الغرب الإقصائي) سوف لن يتوقف عن حربه هذه، مهما كانت الأكلاف…
لكن، يظل السؤال هو نفسه: مَن يقدر على المبادرة؟
في هذه اللحظة، يعود السؤال سوريّاً. ولأن وقائع الحياة تجعل السلطة، أيّ سلطة، تتحمّل مسؤولية تتقدم على مسؤولية المعارضة، أيّ معارضة، فإن الأنظار تتجه صوب أهل الحكم والقرار في دمشق لسؤالهم عن الضربة المطلوبة لكسر هذه الحلقة المفرغة، لكنها مليئة بالدماء والقهر والتحارب والتباعد.
ما قاله نائب الرئيس السوري فاروق الشرع في حديثه إلى «الأخبار» أمس يمثّل صورةً من النقاشات القائمة داخل الأوساط القيادية في سوريا. لا يدّعي الشرع لحظة أنّ عرضه يمثّل الوجهة المقرّرة. ولكن ما يعرضه الشرع يمثّل، في هذه اللحظة، تصوّر الحد الممكن والمنطقي من جانب النظام للتقدم خطوات وليس خطوة نحو غرفة يمكن أن تتّسع لمَن يقدر أن يصوغ التسوية التاريخية. وما أورده الشرع من مراجعة وتقديرات ونقد ذاتي، إنما يعكس الاستعداد الحقيقي، وليس النظري، لأجل المضي في محاولة جادة لوقف الحرب والتوجه نحو تسوية حقيقية.
في أوساط المعارضة مَن يرفض الفكرة بالمطلق، لأن هذا البعض يزعم أن النظام لم يعد يقدر على الصمود أكثر. وفي اعتقاد هؤلاء أن انهياراً متسارعاً يحصل اليوم على الأرض. والمشكلة هنا ليست في تصوّر أو توهّم وقائع ومعطيات إما غير صحيحة، أو غير دقيقة، بل في كون هذا الموقف إنما يعكس حقيقة قاسية، وهي أن المجموعات المسلحة في سوريا باتت فاقدة لأيّ استقلالية، وصارت مرتهنة إمّا لأحقاد وعقليات الانتقام والاستئصال، وإما مرتهنة لمَن يمدّها بالمال والسلاح. مع ضرورة الإشارة هنا الى أن الجهد غير المسبوق الذي أشرفت عليه وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية، بالتعاون مع أجهزة استخبارات عربية وإقليمية لتوحيد المجموعات المقاتلة ضمن إطار واحد، له هدف مركزي، يتعلق بربطها كلها بسلطة وصاية تديرها في كل شاردة وواردة. وهو ما يحد ممّا تبقى من هوامش استقلالية عند بعض المجموعات المعارضة.
وهذا يقودنا الى استنتاج بأنه يصعب توقّع خطوة إيجابية من هذه المجموعات. لكن قيمة مبادرة الشرع وفعاليتها أنها تفسح في المجال للتوجه صوب الحاضن الأهلي لهذه المجموعات، بقصد إقناعه بضرورة إعادة النظر في المسار الذي ينضوي فيه. وإذا لم يتلقّف البعض، من المعارضين، أو المهتمين بسلامة سوريا، هذه المبادرة، فإن البديل الفعلي ليس أمراً يصعب تخيّله، إنه ببساطة الحرب الأهلية المجنونة، وبفصول أكثر دموية وقساوة وخسائر. وعندها، لن تقوم تسوية، إلا بعد سقوط مئات الآلاف من القتلى، واستسلام المتحاربين لخارج، سوف يفرض وصاية تستمر عقوداً من الزمن.

السابق
المطران المنفي.. البطريرك الـ 158
التالي
أحمد جبريل والقضيّة