في ازدواجية اللغة

لم يعد مهماً مضمون لغة الخطاب السياسي اللبناني طالما انه صار "لكل لغته" ولن يغيرها لكن النصّ الخطابي المزدوج للممانعة، الذي ظاهره غير باطنه، يأتي ليضيء أكثر فأكثر على الملّمات الجليلات المتحضرات للتطور إلى نكبات: يخرج الكلام عن منع الفتنة من قبل أكثر العاملين عليها! والكلام عن الحوار الوطني من قبل أكثر الكافرين به واللاغين لكل حيثياته! والكلام على النأي بالنفس عن أحوال سوريا، من قبل أكثر المنخرطين والمتورطين في تلك الأحوال! والكلام عن "تحصين البلد" أمنياً واقتصادياً وتشريعياً من قبل أكثر الفاتكين بذلك الأمن، والهادمين لذلك الاقتصاد، والمعطّلين لذلك التشريع! والكلام عن الاحتكام إلى الانتخابات النيابية باعتبارها ممراً إلزامياً للإمساك بالسلطة التنفيذية، من قبل أول الماعسين لتلك الممارسة، وأول المنقضّين على تلك الآلية الديموقراطية المألوفة، بل أول وأكثر النافين لبديهياتها، ومن ثم أول (وآخر) المنقلبين عليها!
في اللغة المزدوجة هذه، الشكل مهين أكثر من المضمون: لن يغيّر فريق الممانعة مواقفه، لا من سلطة بشار الأسد، ولا من معنى تحطيمها وتأثيرات ذلك على لبنان، ولا من قانون الانتخابات ولا من الحكومة، ولا من السلاح، ولا من أي تفصيل يتصل بالقبض على السلطة وإحكام ذلك القبض.. ولا ينفع النقر كثيراً على ذلك الباب لمحاولة فتحه وإغلاق جحور الفتن والتشظّي (إذا كان ذلك لا يزال احتمالاً ملموساً). وبالتالي لا أوهام في هذا المقام ولا أحلام. فهذه راحت في إجازة طويلة، وتركت الحالمين وجهاً لوجه، أمام حقائق الزمن الراهن، وأولها "طبيعة" المشروع الامبراطوري الإيراني وأكلافه وطرقه وأساليبه وأدواته!
لكن مع ذلك، فإن أهل الخطاب الممانع يهينون الحقيقة المجرّدة، كما أخصامهم المحسوسين. ولا ينتبهون إلى ان مشاعر الناس وسياساتهم تتغير لكن الوقائع تبقى جامدة. تدخل في التاريخ كما هي، ولا تخرج منه أو تُحوّر تبعاً لسطوة القمصان السود أو السلاح أو الإعلام الحربي أو الأصابع المرفوعة.
بهذا المعنى، سهل الكلام عن ان حكومة "حزب الله" برئاسة نجيب ميقاتي، باقية بإرادة الدول الغربية! لكن الصعب هو الاعتراف بأن الدعم الغربي لبقاء الحكومة هو تفصيل متفرّع من أصل دعم الاستقرار. وذلك الاستقرار لا يهدّه ولا يهدّده إلاّ حملة السلاح غير الشرعي. وأصحاب المشروع التسلّطي على الدولة وقرارها، بالانقلاب وليس بالانتخاب، وبالسلاح وليس بالتشريع، وبالتهديد وليس بالإقناع والمحاججة. أي إن ذلك الغرب، الذي يعتدّ أعداؤه بموقفه هذا (!!) لا يمانع لحظة واحدة في تغيير الحكومة إذا ما تيقّن ان ذلك لن يدفع بأهل السلاح إلى الشارع.. أي لن يدفع "حزب الله" إلى تخريب لبنان طالما انه لم يعد يحكمه بالواسطة!
تفصيل واحد لكنه أساسي من جملة تفاصيل وردت وترد تباعاً في خطاب الممانعة وأهلها وقادتها، وكلها تدلّ إلى مدى تجذّر دواعي الإلغاء في سياساتهم وممارساتهم، وإلى مدى الإصرار على التمسك بمواقع النفوذ السلطوية بغضّ النظر عن الأكلاف والأثمان. والعجيب فعلاً وحقاً، هو الاستمرار في اعتماد تلك اللغة المزدوجة لتغطية ذلك في زمن الفرز الواضح. وكأن أصحابها يخجلون بمواقفهم ويدارون الأمر بالتورية والمواربة والإزدواجية.. ثم بالإمعان في إهانة الحقيقة وأهلها.
وتلك الحقيقة البسيطة تقول: إن المواقف التي تحتاج إلى كل تلك الأردية والاحجية، لا بد من أن تكون مُخجلة فعلاً وحقاً.. وهي كذلك!

السابق
الكاردينال الراعي يستقبل وفدا سوريا
التالي
ألوان الملابس تكشف ملامح الشخصية