مذكرات ومذكرات مضادّة: مسدّس في فم القضاة

صدرت مذكرات قضائية لبنانية بحقّ مسؤولين سوريين قابلتها مذكرات قضائية سورية بحقّ مسؤولين لبنانيين فيما بدا اشتباك سياسي بأدوات قضائية وكوّن كل فريق مفهومه للحقيقة فسقط العدل

«من سخرية القدر أن يتحول الوحش إلى إنسان ينطق بالعدل ويصدر الأحكام». هكذا اختار رئيس الحكومة السابق سعد الحريري الردّ على السلطات القضائية السورية التي أصدرت مذكرة توقيف بحقّه. أما النائب عمار الحوري، فقال إن المذكرة القضائية «لا قيمة لها في الشكل ولا المضمون، وحتى الحبر الذي كتبت به المذكرات لا قيمة له»، ورأى أن «المكان الطبيعي لهذه المذكرات هو سلة المهملات».

ودعا النائب عاصم عراجي القضاء السوري «لبلّ مذكرات التوقيف وشرب مائها».
إن المستوى المتدني الذي وصل إليه أسلوب الردود على قرارات صادرة عن سلطة قضائية يدلّ على أن مطلقيها ممتعضون إلى حدّ فقدان الأعصاب من توظيف القضاء في المعترك السياسي. فربما لو اقتصر هجوم السلطات السورية الذي استهدف الرئيس الحريري وأعوانه على الكلام السياسي، ولم يلجأ إلى القضاء، لبقي الوحش وحشاً ولما رُميَ في سلة المهملات. لكن يبدو أن الحريري تناسى أن استخدام السلطات السورية القضايا العدلية في المعترك السياسي أتى بعد جولات من تكرار استخدام تيار المستقبل وقوى 14 آذار التحقيقات في جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري والمحكمة الدولية ولجنة التحقيق الدولية كأسلحة في المعترك السياسي الداخلي والخارجي. فتيار الحريري لم يتوقف لحظة منذ عام 2005 عن استخدام قضايا الاغتيال والتحقيق والمحكمة الدولية لإدانة سوريا وحزب الله ومن معهما استباقاً لنتائج التحقيق ولأحكام المحكمة وقراراتها ونسفاً لقرينة البراءة التي تشكل ركن الأركان لنظام العدالة. ولم يتوقف أتباع الحريري عن تهديد شركائهم في الوطن بقوة المجتمع الدولي وعنفوان العدالة الدولية. لكن مثلما ردّ حزب الله على مذكرات توقيف الرجال الأربعة المنتمين إليه، ومثلما يتوقّع أن يردّ السوريون على مذكرات الإحضار اللبنانية بحقّ اللواء علي المملوك ومساعده، ردّ اليوم تيار المستقبل على مذكرات التوقيف السورية. فلا شكّ في أن مناصري الرئيس الأسد يوافقون، رداً على المذكرات القضائية اللبنانية بحقّ المملوك، بأن «لا قيمة لها في الشكل ولا المضمون وحتى الحبر الذي كتبت فيه المذكرات لا قيمة له». ولا شكّ في أن الداعمين للمقاومة في لبنان يوافقون على القول نفسه بشأن المحكمة الدولية.
إن استخدام القضايا القضائية في حلبة الصراعات السياسية قبل صدور الأحكام العادلة: أولاً، يسهم بشكل أساسي في التحريض والتعبئة الشعبية على أساس أن القضية قضية مظلومين لا علاقة لهم بالتنافس السياسي وتعطش للوصول إلى السلطة. ثانياً، يشوّه المبادئ القانونية (قرينة البراءة _ استقلالية القضاء _ تسلسل الإجراءات). ثالثاً، يعرّض القضاة والضابطة العدلية للضغط ويسهم في فرزهم سياسياً ومذهبياً وطائفياً. رابعاً، يعطل المسار القضائي السليم عبر تحويل القضية القضائية المطروحة الى تحد سياسي _ ويمكن أن يبرّئ المجرم ويجرّم البريء بحجج انتمائه السياسي أو المذهبي. خامساً، يكرّس شرعة الغاب التي يتفوّق فيها القويّ على الضعيف والثري على الفقير والمواطن النافذ (العائلات والبكوات والزعامات وبقايا الإقطاع والرأسماليين ومن يدور في فلكهم) على المواطن العادي. وتسود شرعة الغاب في لبنان على حساب دولة القانون التي تحمي الجميع. سادساً، يسهّل الإفلات من العقاب في بلد يحمل فيه أمراء الحرب رايات الحقيقة والعدالة والاقتصاص من القتلة، بينما لا تزال 17 ألف عائلة تبحث عن ضحايا الحرب الأهلية المفقودين. سابعاً، تعطيل إصلاح القضاء من أجل حفاظ السياسيين وزعماء الطوائف والمذاهب على نفوذهم في قصور العدل.
أما في القضايا الدولية، فإن توظيف القضايا العدلية في الخلافات بين الدول يزيد من حدتها ويصعّب المعالجة. فيُرجّح أن تمتنع السلطات اللبنانية وتلك السورية عن الاستجابة لأي مذكرة قضائية تصدر عن أي منهما بحقّ الأخرى. ويدخل الموضوع في إطار إطلاق النار المتبادل من دون التوصل إلى أي نتيجة. حيث إن استدعاء السلطات السورية مسؤولين سياسيين وأمنيين لبنانيين للمثول أمام القضاء السوري في ما بات يعرف بـ«قضية شهود الزور»، قابله استدعاء السلطات اللبنانية قيادات عسكرية سورية للتحقيق معها فيما بات يعرف بـ«قضية سماحة». والنتيجة أن العدالة لم تتحقق، لا في قضية سماحة ولا في قضية شهود الزور، حيث إن الموقف انقسم بين فئتين لا يستهان بحجم كل منهما من اللبنانيين والسوريين حسما أمرهما: كلّ فئة تجرّم الأخرى وتخرج من جعبتها عبر وسائل الإعلام «أدلة» و«إثباتات» و«شهوداً»، وتصدر الأحكام والإدانات وتهدّد بالعقاب.
إن أبرز العناصر التي تسهّل نجاح السياسيين في توظيف القضايا العدلية في المعارك السياسية هو غياب ثقافة العدالة في لبنان ودول المنطقة، والاستهتار السائد بأحكام الدستور (انتخاب غير دستوري لرئيس الجمهورية وإنشاء المحكمة الدولية خلافاً للدستور). وتوسّع بعض الثغر في هيكلية الدولة هامش التدخل السياسي في إدارة السلطة القضائية، حيث إن السلطة التنفيذية تقرّ تعيين القضاة وتحدد موازنة القضاء وتفضّل الضبّاط على القضاة وتستسهل التدخل في الإجراءات. ولا فصل بين السلطات في دولة، «كل مين إيدو إلو» و«الشاطر» يحصّل حقوقه.
في ظلّ كلّ ما يحصل، يبقى القضاة محكومين بقانون الصمت. لكن مهلاً، فحتى لو أرادوا الصراخ فلن يعلو صوتهم كثيراً، إذ إن مسدّس السياسة في فمهم… يمنعهم من التنفّس فلا حاجة إلى التهديد بإطلاق النار.  

السابق
ربع الساعة الأخير
التالي
ثلاثون من الذهب ثمن خائن بلاده