تهديد استراتيجي

للحجارة في الشرق الاوسط قدرة على اشعال حرب. والحجارة في أكثر الحالات لا تقتل فهي تجرح أو تخدش وتضر بالصورة في الأساس. في نضال تكون الصورة التي تخرج فيه الى الخارج هي الشأن كله، لا يمكن الاستخفاف بهرب جنود الجيش الاسرائيلي من رماة حجارة، وتأثيرات الرسالة.
هناك شرك معروف مسبقا: فمن جهة عدسة التصوير هي سلاح سلب نشاط الجيش الاسرائيلي شرعيته. والرد العنيف على رماة الحجارة يتم تصويره دائما بصورة سيئة ولا يهم مبلغ اجتهاد الجنود. ومن جهة ثانية عدم الرد أو الهرب في اسوأ الحالات كما حدث في الآونة الاخيرة قد يجعلان واقعة تكتيكية (عديمة الأهمية في ظاهر الامر) واقعة ذات قدرة على الضرر الاستراتيجي.
بعد 25 سنة من نشوب الانتفاضة الاولى، ما تزال الحجارة والاولاد يثيران المشاعر لدى الطرفين. فالصور قد تدفع الفلسطينيين الذين ينتظرون بلا غاية نتائج الاعلان الاحتفالي في الامم المتحدة برغم عدم المنطق الى فورات عنف في اماكن اخرى. وقد تدفع صور مشابهة حكومة اسرائيل التي هي في فترة انتخابات الى رد مضاد.
المصالح متشابهة برغم تصريحات الطرفين، مع ما في ذلك من المفارقة. فقد أصبح نتنياهو وأبو مازن صورتين متشابهتين في المرآة. فالتصريحات في جهة والافعال في جهة اخرى. وهما يعلنان الرغبة في التفاوض لكنهما غير قادرين. وكلاهما يهدد بالمس لكنه لا يقصد. وكلاهما لا يريد الانجرار وراء رماة الحجارة.
لا ينوي أبو مازن ورجاله احداث انتفاضة ثالثة، فقد خسروا في الانتفاضة الثانية كل ما كان لهم. وساعدتهم اسرائيل على اختيار نضال دبلوماسي حينما أبادت بالقوة العسكرية البنى التحتية للارهاب وبنت جدارا وقد دُمر في الطريق الى ذلك ايضا الاقتصاد الفلسطيني.
منذ ان توفي عرفات بنى الفلسطينيون أنفسهم رويدا رويدا. وساعد الامريكيون بالمال وببناء كتائب. أما الاسرائيليون فقد ابعدوا من غير ضجيج كبير الجهات المعارضة (ولا سيما حماس)، وأجازوا بناءا كثيفا وازهارا اقتصاديا.
تحولت رام الله الى مدينة انتاجية وكذلك أجزاء من الخليل ايضا. وتقام الروابي وهي مدينة جديدة على هيئة موديعين لازواج برجوازيين وتُمهد طرق جديدة للفلسطينيين.
سيختفي كل ذلك اذا نشبت انتفاضة ثالثة. وأبو مازن يعلم هذا جيدا ولهذا لو كان الامر متعلقا به لظل يحلق في العالم لاحراز دعم دولي، وعضوية في مؤسسات مختلفة في الامم المتحدة، بلا عنف سافر ومن غير تعريض ما بناه للخطر.
دولة اسرائيل ايضا لا تريد الصراع وبرغم التهديدات بوقف الميزانيات واسقاط السلطة الفلسطينية، من الواضح لمتخذي القرارات في اسرائيل انه لا يوجد بديل حقيقي عنها. فأبو مازن هو أفضل صفقة تستطيع حكومة نتنياهو ان تطلبها، فهو من جهة زعيم يختلف عن عرفات يدرك جيدا انه لا يجوز دخول دوامة ارهاب. وهو من جهة ثانية زعيم على هيئة مشابهة يخاف اتفاقات السلام التي عرضها اولمرت وباراك من اللحظة التي يُطلب اليه فيها ان يتخلى عن قضية اللاجئين والقدس.
يريد الطرفان الهدوء والطرفان قد يضر بهما الحجر الاستراتيجي.
تقع المسؤولية على الطرف الاسرائيلي، فللجيش الاسرائيلي الوسائل العسكرية لمنع احداث الشغب ولوقف الطوفان ويجب عليه ان يستنفدها بأن يعمل بصورة تناقض مبدأ الاحتواء: فصورة الهرب اسوأ من صورة الرد.
يُعد هذا دواء تخفيف ألم فقط حينما يكون خطر الدولة الثنائية القومية قائما وحينما تُدوي مسألة حقوق الانسان في العالم، لكن اذا لم يوجد شريك جدي وقرارات داخلية فان دواء تخفيف الألم ايضا يساعد على ألم الرأس المزمن.  

السابق
ليستمروا في الحلم
التالي
لو كانت هناك كتابة على الحائط