تعايش بشرط الإبتعاد عن الجدل الديني والسياسي

هي قرى متجاورة، لم تدخلها السياسة سوى مؤخرا، فمثلّت السلم والتعايش المشترك بين المسيحي والمسلم والسني والشيعي. هكذا تتنوع الطوائف بين قرى الجنوب الحدودية، دون أن يكون الإختلاف سبباً للخلاف، إلا ما ندر من نعرات حزبية، بشرط عدم الجدال في الدين.. والسياسة.
"مذ كبرت وأنا أرى العرب(أهالي القرى السنية: مروحين ويارين والضهيرة) يأتون الى متجرنا كي يبتاعوا حاجياتهم، وغالبا ما نذهب لعندهم لتعذر إمكانية مجيئهم." يقول ع.س، تاجر في قرية عيتا الشعب. ويضيف"نتبادل الزيارات دائما، ونتحدث في أمور حياتية كثيرة، لكنّنا لا نتطرق الى الدين والسياسة كي نحافظ على علاقاتنا معهم". ويعلق قائلا"وما علاقتنا نحن بالسياسة؟! نحن تجار، نسعى الى تأمين لقمة عيشنا، كما أنّ أهالي هذه القرى طيبون وبسطاء". لكنّه يستطرد قائلا" شعرت بتغيّر البعض منهم بعد اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري بعد حرب تموز 2006، بعد الإنقاسامات السياسة بين آل الحريري الداعمين لهم وبين الشيعة. لكنّ هؤلاء قلّة، ولا أعمّم.
بعيداً عن السياسة
بدوره الأستاذ س.ص، الذي يدرّس في إحدى المدارس الرسمية هناك، يقول أنّه لم يلمس أي تغيّر بعد الأحداث السياسة، "لأنّ إدارة المدرسة والمدرسين متفهمون. نعيش معهم منذ سنوات طويلة، نتقاسم هموم الحياة التي غالبا ما تكون الدولة بعيدة عنها، فلن تدفعنا السياسة الى التشاجر." يتحدث الجميع عن الإختلافات السياسية، وليس عن الإختلافات المذهبية، "لأنّ السياسة هي من تفرّق وليس المذهب" كما يقول الأستاذ، ويضيف" بعض العائلات هناك تقيم مجالس عاشورائية، بعضهم يشاركوننا في مناسباتنا. لا تعصب هنا، لأنه أصلا لا نتحدث عن الفروقات المذهبية والصراعات التاريخية، فإن تحدثنا سنختلف، ولن يفيدنا الخلاف، نحن نحترم بعضنا". لكنّ المعلمة م.س تملك تجارب "مؤلمة" حول هذا "الإختلاف"، فتقول"بدأت التدريس هناك بعد اغتيال الرئيس الحريري، فكنت أسمع تعليقات كثيرة من طلاب الثانوي، حول الإعتصامات، والإغتيالات، وحجابي ولباسي الأسود. كنت أشتكي الى الإدارة فوقفت إلى جانبي، وسعت الى معاقبة التلاميذ. وعندما فعلت، هدّدني بعضهم، فخفت وانقطعت عن التعليم لأيام". وتضيف "لكنّي أدرج هذه الأمور تحت عنوان الطيشنة وقلة الوعي ليس إلا. فقد بادر الإداريون الى زيارتي في بيتي، ووصل الخبر الى رئاسة البلدية التي بدورها اعتذرت لي وتكفلت بتأمين حمايتي." تعلق"كانوا في غاية الطيبة، يتمتعون بإحساس مسؤول ويترفعون عن توجيه النعرات. ولا ألوم الطلاب الذين كانوا ينقلون الى الصف ما يسمعونه في التلفاز من عبارات تحريضيّة." وتتابع" أُعلِّم في تلك القرى منذ سنوات، أشعر بأنّهم يحترمونني ويسعون الى تأمين راحتي".
يتذكر ح.غ(23 عاما) "أمورا مضحكة" كانت تحصل معه في "القرية الشيعية" التي تعلم فيها، فيقول" تعلمت أولا في المدرسة الإبتدائية ثم انتقلت الى الثانوية. عندما علم زملائي بأني من الطائفة السنية، تجمعّوا ضدي، وبقيت أنا وأصدقائي السُّنَّة الثلاثة لوحدنا. لم نكن نعرف الفرق بين هاتين الكلمتين، لكنّا بدأنا بتبادل الشتائم، حتى تعاركنا. جاء الناظر، وعندما عرف قصة الخلاف عاقبنا جميعا، ومنعنا من الكلام في هذا الموضوع قائلا إنّنا أبناء دين واحد ولا يجوز لنا التشاجر". يتابع "عندما أتذكر هذه الأحداث النادرة، أقول أنّ العصبية للدين أو للمذهب هي شعور فطري، كما يتعصب المرء لعائلته. لذا نسعى الى الإبتعاد عن الحديث في الدين، خاصة أن كل طرف مقتنع برأيه، ولن يحدث الجدال سوى المتاعب والتنافر".
تعايُش عريق
قصة تعايش قديمة ولدت بيت هاتين القريتين، لتكون الشاهد على التعايش الإسلامي المسيحي في المنطقة. تلعب أمور كثيرة دورا مهما في تقريب المجتمعين، أولا المسافة القصيرة التي تفصل بينهما، ثانيا المصالح المشتركة، وثالثا طبيعة الناس الذين اعتادوا على بعضهم البعض، واعتادوا على الإختلاف.
غالبا ما يكون التعاون بين أهل القريتين سببا في تأمين رزق الكثيرين، خاصة عندما يطلب أهل رميش أياد عاملة من عيتا" في كل صيف، يأتينا التبغ من رميش لنعمل في شكه وتوضيبه، كما أنّ القيمين على العمار هناك يطلبون الكثير من شبابنا للعمل". تقول أم علي، وتضيف"ما شأننا نحن والدين"، "كل واحد حر بدينو، المهم الإحترام". وتتابع"أتذكر مذ كنت طفلة الرجال الذين كان أبي يزورهم ويزوروننا. يتحدثون عن أمور كثيرة. كانوا أصدقاء حقيقيين". يعلق زوجها على الحديث" وقف أهل رميش معنا وقفة تاريخية لا ننساها، عندما هجرنا في حرب تموز 2006. أتذكر ذلك المشهد، أهالي عيتا يقفون في سياراتهم، لا يعرفون الى اين يتوجهون بعدما أجبرهم العدو على مغادرة البلدة. وقتها خرج أهالي رميش قربهم، طلبوا منهم المكوث عندهم، فتحوا بيوتهم وقلوبهم." ويضيف"عشنا أياما عندهم، نأكل من طعامهم ونشرب من شرابهم دون أن يتذمروا".
تعمل ر.أ (من قرية رميش) في إحدى مدارس عيتا منذ سنوات. تقول واصفة تجربتها"أشعر كأني فرد من هذه المؤسسة. أنا الوحيدة التي لا أرتدي حجابا، لكنّ هذا ليس عائقا في العمل وفي تشكيل الصداقات". تضيف" لكن طبعا لا أنسى أنه عليّ احترام طابع المؤسسة، فأرتدي ثيابا محتشمة خاصة بعيتا عندما آتي اليها، ولا نتكلم أبدا في السياسة". تساندها الرأي (ف.خ)، التي عملت في التدريس في رميش، "أنا شخصيا لا أتكلم في السياسة. أعرف أنّي وزملائي نؤيد أحزابا مختلفة، لذا لا نتطرق الى هذا الحديث. أسمعهم يتناقشون، ويتكلمون أحيانا على شخصيات أحترمها، لكني لا أعير ذلك اهتماما. المهم أنهم يحترمونني، ويتعاملون معي كما كانوا في السابق قبل الإنقسامات السياسية الحادة".
تقول المعلمة إنّ السياسة هي التي أدخلت الإختلاف وشجعت على التعصب،"لا مشكلة في تعدد الأديان، لكنّ السياسة هي من حثت على التعصب". تستطرد قائلة"هناك الكثير من الحالات التي تسيطر عليها العصبية، فمثلا عند المشاجرات أو المشاكل، تتمثل الشتائم ب"يا مسيحي" أو "يا مسلم" ونصبح نحن مسلمون وهم مسيحيون"، وعندما تهدأ الأمور تعود المياه الى مجاريها. صحيح أني أدرّس منذ سنوات هناك، لكني أعرف بأنّ بعض الأهالي يفضلون معلمة مسيحية، كما يفضل الكثير منا معلمة مسلمة لأولادنا".
  

السابق
البلد: سورية ترد بـ المذكرات على استدعاء المملوك
التالي
يا فقراء الطوائف…. اتحدوا