الفضائيات الدينية الشيعية.. عن أي عاشوراء تتكلم؟

تتسارع الأحداث، تتغير المواقف وتتبدل بين يوم وآخر. الشاشات تنقل ما يجري، تتنافس لأن تكون السبّاقة، الأولى في التغطية والأولى في النقل.
وحدها الفضائيات الشيعية الدينية تعيش أسيرة مأساة تتجدد كلّ يوم، رغم حدوثها في القرن الاول الهجري، تنقل عاشوراء بشكل تقليدي نمطي، وكل ما يجري من أحداث في العالم وكأنّه يحدث في مكان آخر.

الحرب على غزة وكل ما في القضية الفلسطينية من مظلومية لا تخفى على إنسان، لكنّها اختفتْ عن المشهد العاشورائي المتلفز، وصورة سفك الدماء الفلسطينية وجثث الأطفال والرضّع، لم تجعل منها خبرا أول.. ما أفقدها عنصرا حيويا معاشا يجسّد في كثير من معانيه وتجلياته الثورة الحسينية.

فالحدثان على هذه الفضائيات يندرجان في نسق مأساوي واحد، الكربلائي فيه اتصف بالقدسية لما احتوى من عناصر وأحداث مفجعة، رفع من منسوبها وجود سبط النبي الحسين الشهيد وأهل بيته وأصحابه في صلبها، كما أنّ الغزاويّ أكتسب قدسية ولو بدرجة أقل، نتيجة المظلومية التى رافقت فلسطين وقضيتها، ونتيجة العربدة المتواصلة للعدو الصهيوني على الحجر والمدر.. هذا التزاوج الطبيعي بين مأساتين لم نره في تلك المحطات الدينية، بل حضرعكس ما كنّا نتمنىاه، إستحضار الإنقسامات التاريخية، وإستدعائها بطريقة تعّقد حاضرالمسلم وتضيف إلى مشاكله المعاصرة مشاكل أخرى، حوارت ومناظرات وأراء شبع منها الماضي وهزأ منها المستقبل.

فالمسلمون يزدادون تناحرا واختلافا، في وقت تزداد الهجمة الغربية ضد الإسلام يوما بعد يوما من خلال الدخول في صميم الحركات الإسلامية المتطرفة، لتزيد من شدة الإنقسامات وتؤجج الفتن في النفوس، فيصبح المسلم عدو المسلم الآخر، ولو كان من اهل التقوى والعلم والمعرفة والصلاح.

هكذا يدعو أحد قارئي العزاء محبيّ الإمام الحسين إلى السير على الجمر يقول:"هكذا نواسي اخوة الحسين، هكذا نواسي شقيقته زينب التي مشت على الجمر بعد حرق خيامها".
وكأنّ المطلوب هو المشي على الجمر، وليس تحمل الصعاب لإجل الحق وراية الحق في لبنان وفلسطين والعراق وفي كل مكان يتّقد فيه الظلم والألم كالجمر.
وكأنّ عاشوراء عند هؤلاء مناسبة لجلد الذات واستجرار التاريخ، وليست مناسبة لبناء النفوس واستنهاض الأمة من جديد على قاعدة "طلب الإصلاح في الأمة". وكأني بهؤلاء تناسوا خطاب زينب في مجلس يزيد، غافلين عن كل مواقفها الرافضة للذل حتى في أصعب ما يجري على الإنسان من أهوال وأحزان، ناسين دورها الإعلامي في نقل الثورة لتبقى حتى يومنا هذا، ناسين كيف إستطاعت برباطة جأشها أن تؤدي دورا إجتماعيا يحمل أفكار الثورة ورفض الظلم من دون الإستغراق في البكاء والنحيب والإنعزال والتقوقع. فكانت المنبر الأوسع لكل المسلمين في كل العالم وكانت المدرسة الإعلامية التي يمكن لهذه الفضائيات الإنطلاق منها، لنقل المدرسة الحسينية بقالب آخر.

وبين نقل هذه المشاهد وبين دور الفضائيات الشيعية -التي إنتشرت بشكل كبير وملحوظ في الآونة الأخيرة، والتي يُقدّر عددها على القمر الصناعي "النايل سات" بثلاثين محطة وعلى القمر الصناعي "عرب سات" بثلاث عشرة محطة منها: الأنوار، كربلاء، أهل البيت، الفرات، المعارف، المعصمون الأربعة عشر، الزهراء – اختلفت وظيفة كل منها، محطة تنقل ما يحدث في كربلاء بشكل مباشر من مسيرات شعبية وما يجري داخل أضرحة أهل البيت من إحياء لهذه المناسبة السنوية، ما يفتح أمامها جمهورا واسعا من المشاهدين الشيعة الذين ضاقت أحوالهم للحضور إلى مقام الإمام الحسين والذين وجدوا في مشاهدتها تعويضا وخصوصا بعد أحداث سوريا التي منعتهم من زيارة مقام السيدة زينب في دمشق.

قنوات حددت وظيفتها بنقل مجالس العزاء من "الحسينيات" وهي مراكز يجتمع فيها الشيعة لإحياء مناسبتهم، لتفتح الشاشة منبرا جديدا من منابر التواصل الإعلامي الديني عوضا عن المنابر الحسينية المباشرة والتي كانت من أوائل وسائل نشر معاني كربلاء من خلال المحاضرات التي تلقى من الشيخ مباشرة إلى الجمهور، والتي تغيرت معالمها مع الزمن فواكبت التكنولوجيا مستعينة بآلات التسجيل والمحاضرات المسجلة بواسطة الكاسيت، لتصل إلى النقل المباشر للمحاضرات مباشرة من الحسينيات وخصوصا في دول الكويت، حيث يُحيّ هذه المناسبة كبار علماء الشيعة.
إرتأت قنوات أخرى أن تكون مساحة للتطرف، وبرزت كإعلام مضاد، راسمة خطوط الدفاع عن المذهب، وإتخذت لنفسها متراسا مذهبيا، يصل إلى حدّ تكفير وسبّ الآخر، ما دفعها للتقوقع في دائرة أحادية بدل الدفاع عن الفكر والمعتقد بشكل علمي موضوعي، فشكلّت عاشوراء مناسبة لترويج قصص وهميّة خرافيّة؛ تنقل ما لا يرضاه أي عقل شيعي مفكر.

قليلة هي الفضائيات التي آثرت خط الإعتدال في تقديم الفكر الشيعي وفي تغطية عاشوراء فقدمت برامجها بشكل معتاد وخصصت مساحة لتغطية عاشورائية ترسم من مسيرة الحسين آفاق جديدة للتطور والتطوير والنهوض بالأمة الإسلامية والنهوض بها في ظل الهجمة الشرسة التي تريد للمسلمين أن يبقوا رهينة ماض لم يتأكدوا من دقة معطياته، فيستغرقون فيه وينسون كل قضايا الحاضر ودروسه والتي كانت ثورة عاشوراء مدرسة تقدم فيها كل معاني المقاومة ورفض الذل والخضوع والإستسلام للمتكبّر والإنصياع الأعمى من دون إعمال العقل والإستفادة من كل آثار هذه المدرسة العظيمة.

ومع إختلاف كل الوظائف الإعلامية التي رسمتها هذه القنوات لنفسها تبقى المهنية في التعاطي مع المضمون بعيدة كل البعد، عما يُرتجى من دور الإعلام الديني في المجتمع والذي يتجلى بمجموعة من الوظائف والتقنيات، لم تسطتع هذه القنوات الإلتزام بها نتيجة بعض العوائق بدءا من التمويل والذي يعتمد على التبرعات الخيرية، وغالبا ما تقع هذه الفضائيات رهينته، فتقطع بثها إضطراريا لفترات محددة وتعود من جديد منهكة القوى، تسير بغير خطة سنوية، فتشتري بعض البرامج الرخيصة أو تصور معظم برامجها داخل غرف لا تشبه الإستديو، توضع خلفيات جاهزة خلفهم، او تصور بعض الحلقات في المساجد او المنازل، اضافة الى نوعية الكاميرات التي لا تعطي للمقدم حقه بالظهور بشكل واضح وكامل، هذا إضافة إلى نظرة بعض القنوات للمرأة ورفضها للإختلاط مع الرجل، فتفرض على كل النساء التي تسضيفهن على شاشتها لباسا معينا، ما يزعج الكثيرات من المختصّات بشتى المجالات بالظهور ولو كن يؤيدن الأفكار المنويّ عرضها، فتبقى هذه الفضائيات أسيرة بعض الوجوه المكررة، وبالتالي الأفكار المكررة، هذا وتفتقر أيضا معظمها للإعلانات التي تساعدها على النهوض بسياستها المالية، وتقوم ببعض المحاولات التي تساعدها على سدّ هذا العجز من خلال الإتفاق مع شركات الإتصال وإظهار شريط الرسائل في أسفل الشاشة، والذي يدور بكل ما يحتويه من فراغ في الأفكار، فيصبح منبرا جديدا للإساءة للآخرين وبالتالي الإساءة إلى الإسلام.
معضلة الفضائيات الدينية لا تقتصر فقط على الفضائيات الشيعية، بل تذهب إلى كل أطياف الفضائيات الدينية المعنيّة بالجانب الروحي والديني لدى البشر.

ولكن في كل مرة تُثبت فشلا جديدا في تقديم صورة راقية مواكبة لتغيرات المجتمع، تستطيع من خلالها أن تقدّم وجهة نظر مختلفة، تقوم على أسس علميّة وموضوعية، كأن تستضيف مفكرين وأصحاب رأي وإختصاص، ولا تفتح هوائها لرجال دين يطيب لهم الدخول إلى كل بيت بشتى الأفكار التي لا أساس لها ولا مصدر.

السابق
الحريري رداً على المذكرات السورية: مردودة لصاحبها الذي تنتظره أقفاص العدالة
التالي
الذكرى السابعة لاستشهاد تويني