هل تغتال مراكش المشروع الديموقراطي؟

كل الدلائل تشير إلى حقنة ديبلوماسية ومالية بل وعسكرية دسمة للائتلاف السوري في مراكش في 12 كانون الأول الحالي. ورغم أن الحكومة المغربية قد استقبلت مختلف مكونات المعارضة قبلا، فهي لم تملك حتى الجرأة الأدبية لتوجيه الدعوة للأطراف التي لم تنضم لائتلاف الدوحة. وقد قام أكثر من مسؤول غربي بتحذيرنا من مغبة الإصرار على إلغاء الذات وتهميشها بأخذ موقف سلبي من قضية الالتحاق بالائتلاف ضمن الشروط الموضوعة في الدوحة. بل لم يمتنع مسؤول غربي كبير عن القول: على الأقل خذوا موقف تأييد دون انتساب، كما فعل فلان وفلان.

لم تكن جلسات الدوحة نموذجا للحوار الديموقراطي بقدر ما شكلت مطبخا تآمريا لتقاسم الصنائع والبضائع. الهمّ عند البعض التواجد الشخصي، عند البعض الآخر النسبة الحزبية… أما الوطن فلم يتعد سقف صفقة من نمط «أديداس» ملحفة بخطبة جمعة. لذا اعتبرنا ما جرى في الدوحة خطوة إيجابية من حيث توحيده لأطراف تنتمي لمدرسة العيش من الثورة، لا العيش من أجل الثورة. ولكننا أبصرنا في الحرص الغربي ـ الخليجي على جعل هؤلاء الثورة والوطن والمعارضة والشعب محاولة جدية لإلغاء احتمالات انتصار ديموقراطي مدني في البلاد. فقد تم توجيه ضربة قوية لاحتمالات توحيد ديموقراطي وعقلاني لأطراف المعارضة المختلفة. وجرى تقسيم المسلحين، كما جرى شق جبهة رجال الأعمال. وجهت ضربة قاسية لعلاقات الثقة الشخصية أو الحزبية التي تبقت من تاريخ نضالي مشترك يزيد عمره أحيانا عن عشرين عاما. وكم كان مضحكا أن تنال محافظة درعا عضوا واحدا، ومنها انطلقت صرخة الكرامة والحرية.

كانت الحوارات في الدوحة كما تبين، رغم العرس الإعلامي الضروري لهكذا مناسبات، صغيرة في حرتقاتها، صغيرة في تصوراتها. سبق فيها الاستزلام والولاء قضية العطاء والانتماء. وترسخت الأسبقية للدعم الخارجي على الدعم الشعبي. وجرى قبول شروط الآخر مقابل نسب تافهة. كانت عملية شراء الذمم أهم من كل القيم، وجرت إعادة إنتاج قطرية ـ غربية للممارسات الأسدية التي أقام بها قبل ثلاثين عاما الجنرال الأسد نظام حكمه، بفارق أن الأول ركب حصان «التقدميين» والثاني ركب حصان المحافظين، وكلاهما نصّب نفسه قائدا للثورة والدولة والمجتمع. لنعود لمأثورة الأشتر النخعي عشية تسمية الولاة بعد مقتل الخليفة عثمان بن عفان: فلم قتلنا الشيخ إذن؟؟

وصل الازدراء عند «الإدارة العامة الدولية للثورة» إلى تغييب قيادة ائتلاف الدوحة السورية عن عمليات توحيد الفصائل المسلحة التي حضرها مندوبو الدوحة والرياض وباريس ولندن وواشنطن، وغاب عنها ممثلون عما قدّم بوصفه القيادة السياسية والسيادية لكل ما هو سوري، عسكري أو مدني.

عندما نتحدث معهم في هذه الممارسات التي تقتل الثقة بالديموقراطية يقولون بكل صفاقة: «هذا هو مطلب الأشخاص الذين نلتقيهم، هم من يطالبنا بحل المستعصي من مشاكلهم». فنحاول من حين إلى حين، تذكير من يعيرنا بأبناء بلدنا الذين دفع لهم «كاش» بسبب الظروف المصرفية الخاصة بالبلاد، أو وضع على أبواب بيوتهم حراسا ليشعروا بأنهم « VIP» فعلا وقولا، أو أعطاهم جوازات سفر أوروبية من دون جنسية ليتقمصوا الجلد الأبيض فوق بشرتهم السمراء. ان «أفضالهم» هذه لا تعادل قطرة دم لطفل سقط قبل أن يتعرف على صندوق الانتخاب. وأن سقوط الضحايا الأبرياء قد تضاعف، بسبب صمتهم عن التواطؤ التركي لعبور المتطرفين الحدود التركية إلى سوريا، بشكل جعل الدم والهدم والردم قاسما مشتركا بين أصحاب الخيار العسكري من غرباء السلطة وسلطة الغرباء.

لن تدفع الحكومة المغربية درهما واحدا من ضرائب الشعب، فهناك تقسيم عمل متقن: ثمة من يدفع وثمة من ينظّم وثمة من يخطط وثمة من يمثل الشعب السوري، وهناك أخيرا من يصّوت، في مراكش، على اعتباره الممثل الشرعي والوحيد. وكون الأحداث الكبيرة تحتاج إلى مشاهد متميزة، ستحضر السيدة هيلاري كلينتون، ربما في آخر ظهور لها كوزيرة للخارجية الأميركية، هذا الحفل لتحمل لقب مطران العمادة بعد الولادة.

طالما سألنا الفرنسيين الذين نقابلهم: لماذا لا تقتبسون صورا من الثورة الفرنسية، أو المقاومة الفرنسية، عندما تتحدثون معنا في سوريا؟ لماذا تريدون منا أن نكون نسخة ليبية مسخ؟ لماذا تدعمون «سوريو الخدمات» les syriens de service ولو كانوا بخدماتهم يعززون مواقع الأطراف الأبعد عن العلمانية؟ لماذا لم تتخذوا أي إجراء احترازي ووقائي بشأن «جبهة النصرة» رغم وجود مواطنين فرنسيين بتواصل مباشر معها؟ لماذا تريدون رفع حظر إرسال السلاح إلى سوريا وأنتم تعلمون أن فيها فائضا في السلاح والمسلحين؟ هل تعتقدون بأن ما تم تدميره غير كافٍ بعد؟

بالطبع يهمس متحدثونا في غيابنا بأن هذا الخطاب يخدم الديكتاتورية ويسهم في إطالة عمرها. وأن الإشاعات التي نطلقها عن وجود «محاكم شرعية» محاولات منا لتخويف الأقليات والعلمانيين، في حين أن هذه الجماعات المتطرفة تحت السيطرة وسيتم القضاء عليها في الوقت المناسب. ينسى هؤلاء أن العنصر الوحيد تحت السيطرة هو «سوريو الخدمات»، وأن الجهاديين التكفيريين أثبتوا أنهم أكثر براعة في التحالفات والعداوات من أكثر الديبلوماسيين الغربيين حنكة.

ما زالت عملية اللعب بمصير الثورة والشعب السوري مستمرة، يوما بالحديث عن الكيميائي، ويوما آخر بالحديث عن سقوط دمشق بين لحظة وأخرى. ويبدو أن تأجيل تشكيل حكومة ائتلاف ما نجم عن القاهرة (للمعارضة السورية) وجنيف (للجماعة الدولية) لم يكن فقط بسبب صراعات الكراسي، وإنما أيضا بانتظار حدث نوعي ينسي الناس أن هذا المقترح كان فرنسيا ولم يكن سوريا. وإن كان الغربيون قد دفعوا لتشكيل هيكل الدوحة «لوقف الدينامية الجهادية في سوريا»، فلعلهم اليوم يعززون هذه الدينامية بمواجهتهم المفتوحة لتشكيل قطب ديموقراطي مدني واسع يتعرف فيه المواطن السوري، الذي انتسب للوسطية والاعتدال خلال أكثر من خمسة آلاف قرن، على مطالبه الأساس بالحريات الديموقراطية والعدالة الاجتماعية والمساواة في دولة قانون ذات سيادة.

قبيل انطلاقة الحراك المدني الاجتماعي في سوريا، قلنا ان سقوط الفرعون مبارك سيعطي الدفعة الأهم للشباب السوري للتحرك. اليوم، ومع وقفة الشعب المصري العظيمة في وجه قرارات مركزة السلطة بيد الرئيس محمد مرسي، نجد المواطن السوري الذي قبر الديكتاتورية في القلب والعقل والواقع، يفتح العين على مبايعات سريعة، أعطاها يوما لمجلس سياسي هنا، أو مجلس عسكري هناك. متصديا من جديد للسلوكيات غير الديمقراطية والجنوحات الطائفية والمذهبية التي عززت خيار العنف السلطوي وأدخلت سوريا في نفق حرب أهلية مدمرة للبلاد والعباد.

كلما تصاعد العنف تصاعدت رائحة الموت وأبعد المشروع الديموقراطي. وإذا كانت الطوباوية تعني منع الديكتاتورية من البقاء والظلامية من تأميم الغد، فهذه مهمة نضالية يومية وليست مجرد حلم يتراءى أمامك أو معك. ولا يمكن لوضع ثوري أن يستعيد المبادرة من دون أن تستعيد الحياة مكانتها، كسبب أول للخلق أو الوجود. ويستعيد الإنسان مكانته باعتباره القيمة الواعية المكرمة الأرقى في هذا الوجود.

السابق
الإكوادور تدرس منح اللجوء للأسد.. وحل الازمة في آذار المقبل
التالي
مؤشرات عودة التواصل والتنسيق بين حزب الله والمستقبل