اسحبوا الجيش من طرابلس 

تعلن طرابلس يوماً بعد آخر عودتها إلى جذورها الشامية التي لم تُقتَلَع منها يوماً. ها هي تعلن التحاقها، بالدم، بوطنها الأم سوريا. نهاية الفصل الجديد من ملهاة الاحتراب الأهلي فيها، ليست إلا نتيجة لقرار المسلحين الذين شارفت ذخائرهم على النفاد، بعدما امتنع مموّنهم الرئيسي عن بيعهم بعض ما يريدونه. وبالصدفة، عُقِد اجتماع للمجلس الأعلى للدفاع، قرر تكليف الجيش حفظ أمن المدينة. تكليفٌ يذكّر ببيانات مديرية التوجيه في الجيش التي ما فتئت تخبر الناس أن الوحدات العسكرية «انتشرت» و«اتخذت تدابير» و«ردّت على مصادر النيران». على مديرية التوجيه أن تعدّل من بياناتها، لكي لا يحتار «المواطن الصالح» الذي يصدقها. من حقه أن يسأل عمّا إذا كان الجيش قد انسحب بين جولتي قتال، وعمّن يتحمّل مسؤولية ذلك. ربما عليها أن تصارحه، وتقول له إن الجيش لم ينسحب. فبينما كان المسلحون يتبادلون الرصاص والقذائف فوق «سياج الوطن»، تحوّل الجنود والضباط وآلياتهم إلى خط التماس الحقيقي. لم يكن لهم أي دور في وقف القتال، لكن الحق يُقال: وجودهم منع وقوع مجازر حقيقية بين المتقاتلين. عدا عن ذلك، لا عمل لأي سلطة شرعية في عاصمة الشمال. تقلص دور الدولة هناك إلى حدوده الدنيا: منع الإبادة الجماعية. أما القتلى «بالمفرّق»، فسيستمرون بالسقوط. وفي ظل اضمحلال الدولة أمام «الماردَين» السنّي والشيعي، لم تعد لها أي وظيفة على المستوى الوطني سوى الحفاظ على وجود المسيحيين دون غيرهم.

وفي صلب المشهد الطرابلسي وعلى هامشه، ثمة كلام يٌقال همساً عن أداء الأجهزة الأمنية الرسمية. لم يصدر أي بيان، ولو توضيحي، بشأن صور «عضو مجلس شورى تنظيم القاعدة (سابقاً)» الشيخ حسام الصباغ، وهو يأخذ البيعة من مقاتلين في طرابلس. صمت جميع من بأيديهم الأمر. لا الجيش ولا القوى الأمنية وجدوا أنفسهم معنيين بالحدث، ولا سياسيّو المدينة اللاهثون خلف الأوراق في صناديق الاقتراع يجرؤون على وقف تمويل مجموعات مسلحة بايع قادتها الصباغ قبل أيام، بصورة شبه علنية. تُترَك ميليشيات المدينة لتتضخم تحت أعين رجال الأمن. إما أن البعض يريد تسمينها لذبح قريب، أو أن قطار التمديد لقائد الجيش العماد جان قهوجي والمدير العام لقوى الأمن الداخلي اللواء أشرف ريفي لا يراد له أن يتأثر بمعركة «جانبية»، حتى لو كان هدفها وقاية المدينة شر ابتلاعها من القوى الصاعدة فيها.

من الظلم تحميل مسؤولية ما يجري في طرابلس الشام لفرد. حسام الصباغ عاش طريداً عندما لاحقته الدولة. لكنه اليوم يقاتِل ويُبايَع بحريّة، لأنه لم يجد من يردعه. تنطبق القاعدة نفسها على المسلحين الآخرين (إلا آل الموري ـــ المدعومون من حزب الله ــ الذين أوقفوا وصودرت أسلحتهم). هذا الواقع المخزي الذي تحوّل إلى «عادي»، لم يدفع أحداً من سياسيي المدينة إلى الخجل. فليقدّموا كبش محرقة على الأقل. يمكنهم أن يقولوا إن ضابطَين فاشلين عجزا عن حماية العاصمة الثانية للبلاد. لا عامر الحسن (رئيس فرع استخبارات الجيش في الشمال)، ولا شئيم عراجي (رئيس مكتب المعلومات في الشمال) حالا منفردين أو مجتمعين دون تحوّل طرابلس إلى البؤرة الأمنية الأخطر على حياة أهلها. فليُقالا. إنه أقلّ الواجب. وإلا، فليُسحَب الجيش من المدينة، حفاظاً على ما يُسمى «هيبة».

السابق
عاصمة الجنوب صيدا تنضمّ إلى رابطة المدن الكنعانية
التالي
سليمان يطعّم وفوده