خذوا الحكمة من «أهل النهر»!

يحكى أنّ قندساً كان يعيش في نهرٍ كبيرٍ، وأراد أن يبني له ولعائلته بيتاً من أغصان الأشجار، فرآه تمساحٌ يعرف عنه بطشه واستقواؤه على الضعيف، ونَهرَه ومنعه من بناء المنزل بحجّة أن تلك البقعة من النهر تخصّ التمساح وحده، فما كان من القندس إلا أن «يكسر الشرّ» ويبتعد عن تلك البقعة. لجأ إلى حافة النهر، وما إن همّ ببناء بيته، حتى صاحت به ضفدعة عجوز: «ماذا تفعل هنا يا ذا الفراء؟»، فأجابها القندس إنه يبتغي بناء بيتٍ لأسرته، فمنعته هي الأخرى بذريعة أن طرف النهر تمتلكه الضفادع، فردّ عليها القندس بأنّ النهر كبير جدّاً، ويتّسع للحيوانات كلّها، فما كان من الضفدعة إلا أن نادت أبناءها الكثر، وظلّوا ينقنقون حتى رحل القندس، الذي ما إن يشرع ببناء منزله في مكانٍ ما من النهر، حتى تطرده الأسماك والسلاحف النهرية حتى طيور البطّ والإوزّ ومالك الحزين.
بعد مدّة، وصل الصيف بحرارته المرتفعة وشمسه وقيظه، فحلّ الجفاف بالمنطقة، وأخذت مياه النهر تتبخّر شيئاً فشيئاً، إلى أن بدا واضحاً أن مشكلة خطيرة تتهدّد قاطنيه. فالنهر الذي كان يبلغ عمقه متران أو ثلاثة، لم يعد يتجاوز عمقه عدداً من السنتمترات، فأخذت الأسماك والضفادع والتماسيح تستغيث، لعلّها تجد من ينقذها من الموت المحتّم، حتى التمساح المستقوي أخذ يبكي ويطلب النجدة حتى من النمل والخنافس.
القندس الذي اكتفى أن يعيش هو وأسرته عند أطراف الغابة، سمع استغاثة أهل النهر، فهرع مسرعاً ليعرف ما يجري، وعندما علم بما حلّ بالنهر، نادى أولاده وزوجته، وبعض القنادس من الجيران، فجمعوا الحطب وأغصان الأشجار، وصنعوا سدّاً منيعاً في مجرى النهر، ثمّ أخذ منسوب النهر بالارتفاع، إلى أن تكوّنت بحيرة طبيعية خلف السد، وفرحت الحيوانات، وشكرت القندس بعدما اعتذرت منه على سوء المعاملة سابقاً.
وكم نحن في لبنان بحاجةٍ إلى أن نعرف جيداً أن لبنان الصغير، كبير يتسّع لجميع أبنائه على اختلاف أهوائهم، كلّ فردٍ من لبنان، بغضّ النظر عن طائفته أو عائلته أو مذهبه، يمكنه أن يبني حجراً فيكون مدماكاً في بنيان الوطن. ولكن للأسف، لبنان الكبير تتناتشه الطائفية من كلّ ناحية، فأضحى صغيراً جدّاً لا يتسع حتى لأبنائه، فنجدهم يهاجرون إلى بلاد الاغتراب، من النهر إلى خلف البحار، فيعودون إلينا مكرّمين على إبداعاتهم، وحينئذٍ نفتخر بأنّ العالِم الفلانيّ أو الطبيب الفلانيّ أو الفضائيّ الفلانيّ، لبنانيين، من بلد الشرائع والحرف والكلمة، ولا نلتفت إلى الأسباب التي حدت بهؤلاء لأن يبدعوا في الخارج.
خرج لبنان من حربه الأهلية من خلال اتفاق الطائف، الذي تنصّ أهمّ بنوده على إلغاء الطائفية السياسية والحفاظ على السلم الأهلي، لكن، وبعد مرور أكثر من عشرين سنة على توقيع هذا الاتفاق، لا يمكننا أن نرى إلا ممارسات تكرّس الطائفية، سياسيةً واجتماعيةً، كيف لا، وما زال الجهابذة في هذا اللبنان يناقشون قوانين انتخابية تقسّم اللبنانيين وتفرّقهم وتمزّق وحدتهم، فيما يتجاهلون قوانين أخرى تجمعهم تحت سقف وطنيتهم!
لبنان الصغير كي يكون كبيراً يتّسع لأبنائه كلّهم يجب أن يكون موحّداً، ويجب أن يشعر كل لبنانيّ أن الوطن ملك عام، لا ملك طائفة أو حزب أو جماعة. وأن يشعر اللبنانيّ أنه مسؤول كغيره من «أهل النهر» لأن يستنفر القوى لدرء أي خطر يتهدّد سلامة الوطن ومصيره ومستقبله.
لبنان الصغير كي يكون كبيراً يجب أن يكون مزدهراً، سهوله تفي الفلاحين تعبهم وكدّهم، ومصانعه تستقبل الأذرع العاملة المنتجة، وجماله يجذب السيّاح من كلّ حدبٍ وصوب، فلا يهربون من جبال نفايات أو كسّارت تمزّق عباب الجبال.
كيّ يكون لبنان الصغير كبيراً يجب أن يستثمر الأدمغة الشابة فيه، ويستورد لهم كلّ ما يمكّنهم من الإبداع على أرض الوطن، لا أن يصدّرهم إلى بلاد العرب.
أخيراً، كي يكون لبنان الصغير كبيراً، يجب أن يكون شعبه كبيراً، كبيراً بوعيه وإدراكه، ووحدته رغم أنف المقسّمين المشرذمين.  

السابق
اذا اردتم معرفة حقيقة التسجيلات ..
التالي
ربما باب الحارة في «بلجرشي»!