تكتيكات القصف الثقافي

يتساءل كثيرون : ِلما بشكل دائم ، نخسر المعركة سياسياً ، بعد ان نربحها عسكرياً ؟ وهو سؤال مشروع عززته النتائج المتكررة للحروب السابقة ، وتؤكده الوقائع الجارية ، التي مازالت تعاني من مخاض الانتصار العسكري في غزة ، وما آلت وستؤول اليه نتائج دخول الدولة الفلسطينية بصفة مراقب غير عضو الى الامم المتحدة . وكأن فلسطين تتحول من فكرة الى كيان ، ومن سلطة الى دولة . كأن فلسطين هي المستحدثة على حساب الثابت السابق على وجودها ( اسرائيل ) . ومع ذلك تقام المهرجانات والاحتفالات بهذا النصر المبين .
قبلها اعتبرت الدولة اللبنانية ، انها انتزعت من الامم المتحدة ، القرار 1701 وأنها حققت انجازاً تاريخياً بتقييد الهجوم الصهيوني على لبنان ، مستبدلة انتصارات المقاومة بمجموعة فسيفسائية من الجيوش الاجنبية ، تحتل الثلث الجنوبي من لبنان ، وبلوحة سيريالية من المخابرات الغربية والعربية ، تمعن تمزيقاً في جسد الدولة . حتى باتت لا تستطيع التعاطي مع قاطع طرق على شاكلة « الأسير «من دون العودة الى المخابرات القطرية او السعودية ، او على الاقل ،أخذ بركة «كونيللي» وسفير التابعية الفرنسية .
الحقيقة ، ما يعدّ انتصارا ، هو ما يحافظ على اساسيات السيادة في الدولة والامة ، وليس ما يحسب انجازا في الشكل على حساب مفهوم السيادة وضرورياتها . « ماذا لو ربحنا العالم وخسرنا انفسنا ؟ « . لأن الحرب في جوهرها هي حرب مفاهيم . وهي بالتالي حرب ثقافية تماما ، مثلما هي حرب عسكرية . والانتصار يكون في الجبهتين العسكرية والثقافية بصورة متزامنة . لأن الثقافة هي ما تمهد للانتصار العسكري ، وهي التي تستثمر هذا الانتصار وتثبته حقا في التاريخ .
الحرب الثقافية ، مثل الحرب العسكرية. لها ادواتها وأسلحتها الخاصة ، لها طرقها واستراتيجيتها وتكتيكاتها ، استفادت من التكنولوجيا تماما كما الحرب العسكرية وتطورت بتطورها ، فزادت من ابعاد مناورتها ، وسرعة حركيتها ، وفعالية تأثيراتها .
فيها القصف البعيد المدى ويستهدف ضرب البنى الفكرية ، قبل التمهيد القريب باواليات الضغوط السياسية والاقتصادية ، ومن ثم يقوم الهجوم الشامل لتحقيق الإصابات المباشرة في الاهداف المختارة لتشتيت قوى الخصم قبل الشروع بالمعركة العسكرية التي تكون تتويجا ميدانيا للعمل الثقافي على الجبهة الحضارية . في الحرب الثقافية ، ايضا تكتيكات التسلل والتسرب وهوما يعتمد في المفاهيم . وفيها التدمير المباشر وهو ما يعتمد في العادات والتقاليد والسلوك الجمعي والفردي . وفيها الاجتياح الذي يدخل كل بيت ،دون اسئذان صاحبه ، عبرالاعلام المرئي والمسموع ، وعبر الفنون وغيرها .
الاستعمار كمفهوم متسرب الى ثقافتنا ، نستخدمه بسلاسة للتدليل سلبيا على القوة المهيمنة علينا . بينما في الواقع هو مفهوم ايجابي لهذه القوة وتعتد به ، باعتباره تأكيدا على تقدم هذه القوة الحضاري بالنسبة لنا . فالاستعمار يعني اجبارنا على الانشاء والالتحاق بالمدنية . حتى الجماعات الثورية الممانعة للقوى الخارجية ، اصبح مفهوم الاستعمار خبزها اليومي في خطاباتها السياسية . بينما ما سميّ بالاستعمار كان تدميريا بكل ما للكلمة من معنى . هو سلاح صنعه الغرب لنحارب به الغرب وانزلقنا فعليا الى ما كان يريده هذا الغرب .
هذا « الاستدمار» ، هو المفهوم المعبّر اكثر من غيره عن واقع عمل هذه القوى الغازية. استخدم تعبير الاستعمار كقصف بعيد المدى على بنائنا الحضاري ، قبل الغزو العسكري بسنوات ، و وفد مع حركة المستشرقين ، وجولات الرحالة ، وجماعات الدلالين (عسس الايام الغابرة ) واستكمل مع الجاليات والارساليات الغربية تحت العناوين التربوية والثقافة الدينية . وشكل مع قرينه الشرق الادنى اساس التغريب .
فالغرب هو الاساس ، ونحن مهما علا شأننا انما نُقرأ استنادا لهذا الاساس .
في الواقع ، ابتدع الغرب مسألة الأصولية ، بما تحمل من افكار غيبية ، ظلامية ، ووضعها كجبهة تضليلية لتعتمد كجبهة مواجهة محسوبة القوة والآفاق والأهداف . فيحصل الانقسام بين تبعية مباشرة ،او تبعية مداورة عبر هذه الجماعات الممسوكة سلفا من الغرب نفسه .
ان الامن الثقافي ، يتطلب وعياً جماعياً ، ورؤى واضحة للمشاريع المستهدفة امتنا ، ومنظومة من الدفاعات الثقافية تحملها عقول جبارة . وهو ما اطلقه انطون سعاده من خلال ارسائه للنهضة السورية القومية الاجتماعية.

السابق
فتنة مذهبيّة لبنانية على الأرض السورية
التالي
الجسر: لا نقاطع مجلس النواب بل الحكومة