إعادة تأهيل

ليس غريباً أن نرتبك. ونقلق. ونخاف. لم تعلمنا المدارس شيئاً عن حق الاختلاف. نريد من الآخر أن يشبهنا إلى حد التطابق. أن يشرب من النبع نفسه. ويقرأ في الكتاب نفسه. وأن يحب الأغاني التي نحب. وأن يصفق حين نصفق. وأن يرتكب الأحلام ذاتها. وأن تتشابه خيباته مع خيباتنا. تعلمنا في المدارس أن نكون حزمة من القضبان. وتعلمنا الشيء نفسه في منازلنا.

في البيت أيضاً لا يحق للأخ أن يكون مختلفاً عن أخيه. واجبهما أن يشبها الوالد والأجداد. وأن يرثا المواويل نفسها وطريقة النظر الى الأشياء. كل اختلاف له رائحة العصيان. ورائحة التهديد. كل اختلاف يستدعي القلق أو الغضب أو التأديب.

في الحزب أيضاً التشابه هو القاعدة الذهبية. تقرأ بعيون الحزب لا بعينيك. تقرأ بنظارات السيد الأمين العام. لا مجال أبداً لعلامات التعجب. استخدام علامات الاستفهام يعني الانزلاق نحو الانحراف. إنك مجرد نسخة عن الرفيق النموذجي الذي نجحوا في قولبة عقله وبرمجة ردود فعله.

السيد الرئيس هو المثال الوحيد. يستحسن أن تعلق صورته في بيتك علاوة على منزلك. وأن تذكر اسمه باحترام شديد. وأن تدرك الأبعاد الاستثنائية لإطلالاته وابتساماته وتلويحات يده. عليك أن تقتدي به وتتفاءل بغض النظر عن الفقر المستشري والقمع الرهيب وانسداد الأفق.

كان الاستقرار راسخاً. وكانت الطاعة كاملة. ومن وقت الى آخر يُستدعى المواطن الى صناديق الاقتراع. وكان يعرف سلفاً أسماء الفائزين. والثمن الباهظ لمعاندة الرياح الرسمية. وكان البرلمان ينعقد ليجدد مبايعة الرئيس. وكان الأطفال يُستدعون أحياناً ليتدربوا باكراً على الإشادة والانحناء.

فجأة هب «الربيع العربي». هتافات غريبة «الشعب يريد». تظاهرات واعتصامات. شعر مدير الاستخبارات بحرج شديد. لا يملك سجوناً تكفي لاعتقال الملايين. شبان تمردوا فجأة على ما تعلموه في المدارس والمنازل والأحزاب. أطلقوا غضبهم في الساحات وعلى الشاشات وفي الانترنت والفايسبوك وتويتر. تمزّق عقد الطاعة. سقطت الهالات والمحظورات.

سقط المستبدّ بعدما جرب كل مخزون ترسانته. ابتهجوا واحتفلوا ورقصوا. حانت ساعة ترجمة الأحلام. وقع المنتصرون في الفخ بعدما اقترعوا للمرة الأولى في غياب المستبد وأجهزته. في غمرة الانفعالات إبّان الثورة كانوا يعتقدون أن القصة سهلة. نبني ديموقراطية تعددية على قاعدة المواطنة وتداول السلطة ويكون المرجع دستوراً يحرس الحقوق والمساواة والتكافؤ.

وإذا كان لا بد من نكهة إسلامية ليس أمامنا غير «النموذج التركي». حديث قاله كثيرون وصدقه كثيرون.

تعامل كثيرون مع «النموذج التركي» كأنه نبتة يمكن زرعها في هذه التربة أو تلك. تعاملوا معه كعباءة تمكن استعارتها والالتفاف بها. لم يلتفتوا تماماً الى خصوصية التجربة التركية وما رسخته عقود استوحت أفكار أتاتورك ومؤسسات تولت حمايتها. لم يتوقفوا عند عملية إنضاج فرضت على الإسلاميين هناك ثم اختاروها وساروا فيها. وإن وصولهم إلى السلطة ترافق مع نمو اقتصادي وتحسن في أحوال الناس. ارتضى حزب رجب طيب أردوغان العمل في ظل دستور علماني والاحتكام الى المؤسسات لا إلى «المليونيات».

وقع المنتصرون في الامتحان. الاعتراف بالآخر ليس عملية شكلية. حق الاختلاف ليس عابراً في الديموقراطية. الانتصار في الانتخابات لا يعني تفويضاً بفرض الزي الموحّد. لا يمكن إفقاد المرأة مكاسب حققتها في ظل المستبد. المعارض ليس خائناً أو جاسوساً. له الحقوق نفسها وإن خسر الانتخابات. العلماني ليس ذيلاً للغرب. والدستور ليس برنامجاً حزبياً.

لهذا نشعر بهذا التمزق في مصر. وليبيا. وتونس. واليمن. ولاحقاً في سورية. والمسألة ثقافية قبل أن تكون سياسية. إننا نحتاج إلى إعادة تأهيل كأفراد وجماعات. لا يمكن أن نبني الديموقراطية من دون أن نتغير. لهذا يمكن القول إننا في بدايات معركة طويلة. في بدايات اضطراب طويل. وستكون التدريبات مؤلمة ومكلفة.

السابق
لندن وباريس تدرسان استدعاء سفيريهما من تل أبيب احتجاجا على قرار بناء المستوطنات
التالي
الإفلاس السياسي للحكومة