أكثرية وأقلية وهرطقات

في الكلام عن أقليات وأكثريات في العالم العربي، إهانة رهيبة لكل تاريخ شعوب المنطقة. فعلى جاري العادة، تدفع الإيديولوجيات السائدة إلى ابتسار الواقع والتنوع الذي يسود الشرق الأوسط والعالم العربي، إلى لونين باهتين يتشاركان بالإطاحة بالماضي ويهددان الحاضر.

وإذا كان التاريخ الشديد الغنى لهذه المنطقة يعلمنا شيئاً، فهو أن الجماعات العرقية والأقليات الطائفية والمذاهب الدينية «المنشقة» بل والهرطقات على أنواعها، جزء أصيل ومكون أساسي في الشرق الأوسط وفي المشرق العربي خصوصاً. أدت إلى ذلك عوامل كثيرة، منها المتعلق بالمراكز المدنية والحضارية الكبرى على تخوم المنطقة وتأثيرها على الأفكار الناشئة ولجوء الفارين بحياتهم ودينهم إلى هذه الأنحاء، ومنها ما يتصل بالطبيعة الجغرافية والاقتصادية المتنوعة التي حتمت نشوء خطوط فصل بين الجماعات وحالت دون ذوبانها الكلي في حواضن الهيمنة العرقية أو الدينية الأوسع.

وتكاد المنطقة الممتدة من مصر إلى العراق وامتداداً إلى بر الأناضول أن تشكل متحفاً طبيعياً للأعراق والثقافات والأديان. فمن الصابئة في العراق والكنائس القديمة في مناطق الفرات والجزيرة السورية والمستمرة هناك منذ ظهور الحركة النسطورية، إلى الفرق الإسلامية بتفسيراتها المختلفة للرسالة المحمدية، وصولاً إلى الفرق الصوفية واجتهاداتها، رُسمت الخطوط المميزة لمجتمعات كان «الآخر» جزءاً أصيلاً منها. ولم تؤدّ الحداثة الأوروبية إلا إلى المزيد من التنوع والتعدد في بلادنا بمجيء الكنائس البروتستانية ومبشريها.

عليه، تشكل الأقليات القاعدة في الطرف هذا من العالم. وما الحديث عن «أكثرية سنية» سوى اختزال مُخلّ للحقائق القائمة. فضمن الأكثرية هذه، هناك أولاً التوزع العرقي بين العرب والأكراد ثم العشائري والجهوي والانقسام بين الريف والمدينة والاصطفاف الطبقي، ما يحول، عملياً، دون حديث ذي قيمة عن أكثرية قادرة على الالتفاف سياسياً حول الشعار «السنّي»، بغض النظر عن مضمونه.

يضاف إلى ذلك أن التداخل السكاني في نواحي المنطقة بين الطوائف المختلفة، يجعلها تتبنى جميعاً السلوك الأقلوي حيال بعضها البعض فيتبادل السنّة والعلويون، على سبيل المثال، أدوار الأقلية والأكثرية في الساحل السوري وشمال لبنان على مستوى القرية والناحية. فيكون السنّة أكثرية في مكان وأقلية في آخر. تشمل الظاهرة ذاتها طوائف وأقواماً وفرقاً لا حصر لها.

وبتوالي القرون، طور سكان المنطقة ما يسمى «التعايش»، وهو صيغة سابقة «للتسامح» بمعناه الأوروبي الحديث ولا يضطر المتعاملون به إلا إلى التعامل البراغماتي الواقعي مع الجماعات الأخرى، وبمقدار نفوذها المحلي.

مشكلة كبيرة ساهمت في تعقيد هذا المشهد تمثلت في ظهور الدعوات الطهرانية (البوريتانية) المتأثرة بالفكر القومي ومسقطة إياه على الجماعة الدينية. لا مفر من القول إن الدعوات إلى المجتمع الفاضل الصافي عرقياً ودينياً، لا تستند إلى أي معطى حقيقي وأن الأسانيد الإيديولوجية المستخدمة في الترويج لماض متخيل نقي الدين، سهلة التفنيد والدحض.

والحال أن تفسير تاريخ المنطقة باعتباره سلسلة طويلة من الممالك السنية الوراثية القائمة على الغلبة والعصبية، ليس سوى تفسير بائس يعادل في بؤسه الدعوات إلى النقاء الطائفي والديني والعرقي. فهذه الدعوات الصادرة عن أكثريات تفتقر إلى لُحمتها الجامعة أو عن أقليات خائفة وتبحث عن ضمانات لبقائها، ليست إلا الشكل المعاصر من هرطقات معروفة في منطقتنا. لكن تلك القديمة كانت أقل عنفاً وأكثر قدرة على التكيف.

السابق
فلسطين دولة مراقبا في الامم المتحدة.. واحتفالات النصر تعم البلاد
التالي
أوساط مقربة من آل المقداد: للعائلة فروع في كل لبنان