الانتحار السياسي

لا يخفى على اللبنانيين الأسباب والدوافع التي تدار بها اللعبة السياسية من مواقع مذهبية توظف الفتنة لمصالحها وترمي البلد في مسار انحداري مشحون بكل العصبيات الموروثة والمستجدة التي وصلت إلى ذروة الغليان والتوتر. ومن السذاجة اعتبار أن التغيير الحكومي هو جوهر المشكلة التي تتوالى فصولها يوماً بعد يوم وتكشف عن مشاعر مكبوتة ومخططات مرسومة تمعن في تمزيق البلد وتفاقم من مشكلاته ومآزقه السياسية والاجتماعية والاقتصادية والأمنية. على أن الخطير في لعبة المكاسرة هو خروج الأطراف عن السقوف المعتادة للصراع السياسي فتبادل الاتهامات بالتخوين والعمالة والقتل وتغطية الاعتبارات وصولاً إلى الحديث عن الإقصاء والإلغاء والطلاق كلها مفردات ومصطلحات دخيلة على الحياة السياسية في لبنان والتي لم نشهد لها مثيلاً، فحتى في ذروة الاقتتال الداخلي الذي شهده لبنان في حرب العام 75 وجد مجانين تلك الحرب وقادتها منافذ ومسالك للتواصل في ما بينهم، فتبادلوا إطلاق سراح المخطوفين، وأرسوا أكثر من مئات الهدنات ووقف إطلاق النار وكانت مبادرات جمعتهم للتحاور والنقاش في السبل الآيلة لوقف الحرب، وهذا ما نفتقده اليوم في صراع الديوك بين معارضة مقاطعة للحكم والحكومة والمجلس النيابي، استنفدت كل وسائل الضغط لإسقاط الحكومة وهو ممر إجباري بالنسبة لها لفتح النقاش في أي أمر أو استحقاق. وبين موالاة تتمسك بالحكومة وترفض تغييرها من دون توافق مسبق على البديل. ويبدو أن المواجهة ستستمر بين الطرفين قبل أن يصرخ أحدهما ويرفع الراية البيضاء. ولعل المقلق في إدارة الجانبين للصراع في ما بينهما هو الخشية استناداً إلى تجارب الماضي، حيث أسست المشاحنات والانشقاقات الحادة بين اللبنانيين إلى استدراج تدخلات خارجية، غالباً ما كانت تنتهي بالاحتراب الداخلي، الذي كلف لبنان أثماناً باهظة ما زلنا ندفع فواتيرها حتى اليوم.
لقد فشلت حتى الآن كل المبادرات والمحاولات التي قام بها الرئيس ميشال سليمان وغيره من القيادات في تجسير الهوة بين الخصوم السياسيين وفتح الأفق أمام حوار وتواصل يفضي إلى تسوية تحفظ حقوق الجميع الأمر الذي يحمل على الاعتقاد بأن المشكلة لم تعد مسألة تغيير حكومة بل باتت مأزقاً وطنياً قاتلاً تزداد خطورته مع تزايد الحوادث الأمنية المتنقلة ومع تردي الوضع الاقتصادي والتململ الاجتماعي وإقحام بعض القوى السياسية نفسها في الحدث السوري ومحاوره الإقليمية والدولية، مراهنة بالأوهام على نتائجه في لعبة استراتيجية أكبر منا بكثير وعنوانها إعادة تشكيل الشرق الأوسط الجديد الذي بدأت طلائعه بثورات الربيع العربي وما يصاحبها من متغيرات وتحولات ما زالت مستمرة.
وليس من قبيل المبالغة والتخويف أن نقول إن ما يجري في البلد من استعصاء وانسداد سياسي هو حرب أهلية باردة والصدامات الأمنية المتنقلة من منطقة إلى أخرى ترفع من حرارتها، فيما القوى السياسية تذهب بعيون مفتوحة نحو الانتحار السياسي الذي لن يكون فيه رابح، والأمل أن لا نكون بدأنا العد العكسي للدخول في المسار الانحداري بعد العجز عن بناء مشروع الدولة والفشل في الحفاظ على المسلمات والثوابت والتسليم بفتح الساحة اللبنانية أمام كل اللاعبين لاستخدامها في صراعاتهم على النفوذ في إعادة تكوين الشرق الأوسط الجديد.

السابق
فضيحة جديدة في أروقة الاتصالات
التالي
توقيف 4 لبنانيين وسوريتين بجرائم حيازة المخدرات والدعارة