مصر: الحرب الأهلية البنّاءة

الاعتراض الداخلي الهائل ومعه الاعتراض الذي جاء من مصادر غربية عديدة ينبِئان أن الانقلاب "الدستوري" الذي قامت به حركة "الإخوان المسلمين" في مصر سائرٌ إلى الفشل المحتوم. ولكن الأمر الأكيد أن النظرة إلى "الإخوان" بعد هذه المحاولة باتت داخل مصر وخارجها مليئة بالريبة وعدم الثقة.

الشواهد كثيرة على فداحة الموقف الانقلابي الذي تسبّبت به حركة "الإخوان المسلمين" في مصر. الشواهد في الشارع وبين النخبة الجديدة والمخضرمة.
بين هذه الشواهد ذات الرمزية الهامة أن شخصيّة كالدكتور طارق البشري كانت محطّ غضبٍ شديدٍ في أوساط العديد بل معظم الليبراليين والعلمانيين المصريين منذ الأشهر الأولى لنجاح الثورة في إسقاط الرئيس حسني مبارك لأنهم كانوا يتّهمونه بالضلوع، وهو القاضي الكبير السابق والفقيه الدستوري والمؤرخ المعروف، بالدور الأساسي في "الهندسة" الدستورية للتفاهمات غير المعلنة الرئيسية بين حركة "الإخوان المسلمين" وبين المجلس العسكري الذي استلم زمام الأمور بعد الثورة. ولم يكن الدكتور البشري، وهو حفيد لشيخ بارز من شيوخ الأزهر في أوائل القرن العشرين، ليخفي نقده أيضا لليبراليين الذين اتهمهم بافتعال وتضخيم السجال بين مشروعي الدولة المدنية والدولة الدينية بما أدّى من وجهة نظره إلى طمس الأولويات "الحقيقية" لدور الدولة في الوضع الجديد.
… حتى شخصية مثل طارق البشري سارعت إلى رفض "الإعلان الدستوري" الذي أصدره الرئيس محمد مرسي والذي تضمّن في مادته الثانية ما يلي حرفيا: "الإعلانات الدستورية والقوانين والقرارات الصادرة عن رئيس الجمهورية منذ توليه السلطة نهائية ونافذة بذاتها وغير قابلة للطعن عليها بأي طريق، ولايجوز التعرض لقرارات الرئيس بوقف التنفيذ أو الإلغاء من قبل أي جهة قضائية".
الحركات الشبابية التي كانت سبّاقة إلى إشعال ثورة "25 يناير"، معظم الأحزاب القديمة والجديدة، الشخصيات ذات السجل النضالي في مواجهة عهد حسني مبارك كحمدين صباحي أو محمد البرادعي أو سعدالدين ابرهيم، رفضت هذا "الإعلان الدستوري" المدهِشَ في كونه صدر بهذه الخفة عن الرئيس مرسي لاسيما مادّته الثانية التي لا تُصدَّق فعلا من حيث إمكانية أن يفكّر حزب سياسي بعد ثورة ديموقراطية كالثورة المصرية ومهما كان كبيرا بمنح رئيس الجمهورية الذي ينتمي إليه هذه الصلاحيات المطلقة فعلا تحت حجة أنها مؤقتة. والمدهِش أكثر في أن "تطبخه" قيادة "الإخوان" ذات الخبرة الطويلة في العمل السياسي ولكن المعارض فهل يعني هذا "سذاجة" نقصِ الخبرةِ في ممارسة الحكم؟! والمادة الثانية – بالمناسبة – قد تكون أساءت إلى بعض القرارات الأخرى في "الإعلان" والتي كان يمكن أن تكون مقبولة كتغيير النائب العام.
ما يحدث في مصر بعد هذا "الإعلان" هو "حرب أهلية" بالمعنى الإيجابي والبنّاء للحرب الأهلية … على صعوبة إطلاق هذه الصفات على أي "حرب أهلية" لاسيما حين يكون كاتب هذا الوصف من منطقة تشهد حربا أهلية دموية ضارية تمزّق الدولة والمجتمع في سوريا وقبلها في العراق وقبله في لبنان.
"الحرب الأهلية" التي تسبّب بها انقلاب "الإخوان المسلمين" المصريين هي حرب أهلية مطمئنة للمستقبل الديموقراطي لمصر. فهذا المستوى العارم الشعبي والنخبوي، وفي مقدمة القضاة، من رفض "الإعلان" الوقح والذي يتواجه مع قوة شعبية وسياسية كبيرة وحاكمة هي حركة "الإخوان المسلمين" هو أولا رفضٌ ديموقراطيُّ الآليةِ والوسائلِ والأهدافِ ويدخل في سياق الإنجاز الرئيسي الذي حقّقته الثورة المصرية وهو التغيير على أساس الثقافة السياسية السلمية التي طبعت كل الثورات المصرية المعاصرة منذ العام 1919.
لم تخرج مظاهر العنف الذي شهدته شوارع العاصمة القاهرة وبعض المدن الأخرى عن السيطرة والأرجح أنها لن تخرج كما حصل في محطات سابقة. فالنخبة المصرية "تتقاتل" في الإطار القانوني وهي تصنع حاليا، رغم الانشقاق، الأساس الدستوري للنظام الجديد الذي سينتج عن هذا المخاض.
يتواجه اليوم في شوارع مصر التحالفان الرئيسيّان اللذان قاما بالثورة في " 25 يناير" . إنها ثورة الثورة على نفسها نتيجة محاولة "الانقلاب" الإخواني. صحيح أن قوىً من النظام السابق تجد فرصتَها اليوم للدخول على خط الأحداث لكن بالنتيجة على الضفّتين الذي يسيطر… هي القوى التي صنعت الثورة.
كان العديد من الليبراليين المصريين يقولون أن الإخوان المسلمين "خطفوا" الثورة المصرية التي أشعلها غيرهم (الشباب). صحيح أن غيرهم أشعلها ولكن الإنصاف يتطلّب القول أن هذه الثورة ما كان يمكن أن تنجح بدون انضمام "الإخوان" إليها سواءٌ من حيث مساهمتهم في حماية ميدان التحرير خلالها أو من حيث الزخم الشعبي الذي أمدّوها به.
الآن فعلا ومع هذا "الإعلان" تتأكّد الاتهامات بأنهم كانوا يخطّطون لخطفها. وبعض المعلومات يقول وعلى لسان مصادر جادة أنه منذ تولّي محمد مرسي لمسؤوليّاته كرئيس للجمهورية، تجري بصمتٍ عملية تبديلٍ "إخوانية" منظّمةٍ لكل المواقع البيروقراطية من رتب الدرجة الأدنى من وزير والمواقع الوسطى في الإدارة المصرية.
الاعتراض الداخلي الهائل ومعه الاعتراض الذي جاء من مصادر غربية عديدة ينبِئان أن "الانقلاب" سائرٌ إلى الفشل المحتوم. ولكن الأمر الأكيد أن النظرة إلى "الإخوان" بعد هذه المحاولة باتت داخل مصر وخارجها مليئة بالريبة وعدم الثقة.

السابق
“بيت المحترف اللبناني” يعود إلى شاطئ بيروت
التالي
ماذا بعد غزّة ؟