كريم مروة لأن عينِي على شباب الثورات قدمت تجربتي

كريم مروّة المفكِّر المُرّ والاشتراكي العتيق والمخضرم، هو قُطْبٌ من أقطابنا الفكريين الأعلام، فمسيرته المعرفية مرفرفةٌ راياتُ عراقتها وعمقها التغييريين بتأصيليَّتيْهما التنويريَّتين عربياً، فوق رؤوس الأشهاد. وإحدى أسطع تتويجاتها الإبداعية المرموقة، متجليَّة بكتابه الجديد الصادر عن الدار العربية للعلوم ناشرون تحت عنوان: "قادة تاريخيّون كبار في ثورات القرن العشرين" (في جزءين، ط.أولى 2012). وهنا حوارٌ مع مروّة حول هذا الكتاب الذي يهديه "إلى شباب الثورات العربية الجديدة لكي يقرأوا فيه التجارب التي مرَّت بها ثورات القرن العشرين، ويستخلصوا من تلك التجارب دروساً ضرورية لهم من أجل المستقبل".

قراءة شخصية
• ماذا عن "قادة تاريخيّون كبار" الذي تُعلن فيه، وبوضوح متناهٍ، أنه ابن "اللحظة التاريخيّة" لـ"الربيع العربي"، وأنه (أي هذا الكتاب) هو بمثابة الوقفة التأمليّة – المُنعطف في مسيرتك المعرفية الفكرية، وكيف تشرح للقارئ مقوِّمات الاطمئنان التي بثثتها في ثنايا هذا الكتاب والتي تُبشِّرنا، بأننا فعلاً قد بدأنا سلوك طريق التخلُّص النهائي من مقولة "وماذا بعد" المتعلّقة بماضينا المرير؟
في مقدِّمة الكتاب بعنوان: "مدخل" حاولت أن أجيب عن السؤال: "لماذا هذا الكتاب الآن بالذات"؟ في جوابي، قلت إننا في لحظة تاريخية تبدو فيها، أمامنا، شروطٌ تتبلور للانتقال من عصرٍ إلى عصرٍ آخر مختلف في بلداننا، لذلك رأيت من المفيد أن أعود إلى تاريخ القرن الماضي، لكي أُذكِّر بالسِّمات الأساسية التي اتصف بها ذلك القرن وتاريخه، بهدف القول لأجيالنا الجديدة، إن التاريخ هو عبارة عن أحداث متتالية يُهيِّئ جزء منها، العناصر التي تتشكل منها الأحداث اللاحقة، بكلام آخر، وبوضوح أكثر، أردتُ أن أقول إن التاريخ تواصلٌ وتجاوزٌ، وإن الجديد يولد من القديم، ويتجاوزه بفعل الشروط الجديدة للعصر الجديد، لذلك، لا يمكن أن نقول بأن أحداث القرن الحادي والعشرين، قد جاءت من فراغ، بل على العكس من ذلك، هي امتداد، في صورة مختلفة، وفي شروط مختلفة، لأحداث سابقة. أردت أن أقول لشباب الثورات المعاصرة، إنهم – حتى ولو بدون وعي، أو بما سميته في الكتاب – بـ"عفوية" قد ثاروا لكي يتخلصوا من شروط حياتهم، في ظل الاستبداد، إنما ينطلقون من تراكم أحداث سابقة، سميتها في الكتاب، كما هي عليه، "ثورات القرن العشرين". إذن، من الضروري، على جيل الثورات المعاصرة أن يرتقي بوعيه، وأن يقرأ، بعمق، ثورات القرن العشرين (أهدافها.. أفكارها.. برامجها.. قواها.. الإنجازات التي حققتها.. إلخ) ولا سيما عناصر الخلل التي قادتها إلى الفشل. ضرورة هذه القراءة الواعية لتاريخ الثورات الماضية، أنها تساعد على بناء الأسس لبديل ديموقراطي حقيقي لأنظمة الاستبداد التي ثاروا للتخلص منها، ومن القهر والعسف والإذلال التي فرضتها هذه الأنظمة عليهم وعلى بلدانهم.
في قراءتي للثورات، وهي قراءة شخصية، ولا علاقة لها بالتأريخ للثورات كما أشرتُ إلى ذلك في مقدمة الكتاب – حاولت ان أقدم نوعاً من المراجعة النقدية، باعتباري واحداً من الذين شاركوا ببعض تلك الثورات، أو انتسبوا إليها. وأنا، في الواقع، بصفتي اشتراكياً، كنت واحداً من الذين انخرطوا في التجربة الاشتراكية، على امتداد عمري كله، الأمر الذي يجعلني مؤهّلاً – بمعنى من المعاني، لتقديم هذه القراءة النقدية للثورة الاشتراكية على سبيل المثال. وقد اكتشفتُ – كما يُبيّن الكتاب – أن معظم هذه الثورات، حتى لا نقول جميعها، قد انتهت إلى نقيض أو ما يشبه نقيض ما قامت من أجله، وأن معظمها – إن لم يكن جميعها – قد تحولت، بدور قادتها، إلى ثورات هي ملك لهؤلاء القادة دون سواهم، إذ شخصنوا – وكل منهم على طريقته الخاصة – الثورة وأهدافها. وأدت تلك الشخصنة إلى تحويل معظم قادة تلك الثورات، إلى زعماء لا مكان لآخر، في الثورة، في حياتهم؛ حتى لا أقول إنهم تحوّلوا إلى مستبدين بصيغة من الصيغ.

انتظار حتمي
• ما لفتني فعلاً واستوقفني بالأحرى كقارئ أنك تقدم توضيحات وشروحات مسهبة ووافية حول مضمونية هذا الكتاب أي أنك "لم تترك مزيداً لمستزيد" في هذا الأمر، كما يقال، فتبدو وكأنك تريد أن "تقطع الطريق مسبقاً" على أي سؤال يمكن أن يدور حوله، لماذا؟
هذه قراءة للكتاب، لا أوافق عليها. فما قدمته في الكتاب، هو – كما أشرت إلى ذلك في الجواب عن السؤال الأول – أن قراءتي للثورات، هي قراءة شخصية، وهي، بهذا المعنى – حتى وإن أعطيتها صفة الموضوعية – فهي موضوعيّتي أنا تحديداً، لذلك، فإن مجال النقاش، حول قراءتي هذه، ليس فقط، مجالاً واسعاً؛ بل هو حاجة ضرورية. لأن أية قراءة شخصية، وبصفتها شخصية، ينقصها الكثير، وتحتاج إلى المزيد من الآراء الأخرى، وهكذا دواليك. وأنا أنتظر الملاحظات والتدقيقات حول كل ما جاء في هذا الكتاب عن الثورات.

الشرط الضروري
• مسيرتك الفكرية النضالية يُشار إليها بالبنان، ذلك لأنها بعمقها وجذريتها، موسومة بكاملها بالتغييرية الشاملة سياسياً، وثقافياً ومجتمعياً..إلخ، لكن لماذا تعتبر أن هذا الكتاب، بالتحديد، هو بمثابة "مغامرة" قمت بها، على ما تُعلن في خاتمة مدخليته؟ بقولك صراحة: "فإنني قد غامرت في محاولة الإضاءة على ثورات القرن العشرين من خلال رموز كبيرة ارتبطت أسماؤهم بها".
المغامرة، في هذا المعنى، هي أنني لست مؤرخاً؛ لكنني – مع ذلك – مارست نوعاً من التأريخ، وحتى لا أكون مؤرخاً بالمعنى المتعارف عليه للمؤرخ، فقد اخترت الدخول في الموضوع من خلال استحضار شخصيات ورموز لتلك الثورات. بالطبع، لم أجعل أيّاً من هؤلاء قائداً وحيداً للثورة التي كان هو أحد أبطالها، فلكل ثورة رموز وقادة ومشاركون بصيغ مختلفة في هذه الثورات. بالطبع، طابع المغامرة أُصرُّ عليه، لأنني برغم كل الجهد الذي بذلته في إنجاز هذا الكتاب، على امتداد عام ونيف، وجدت صعوبات كثيرة إما لكثرة المراجع وتناقضها أو لشحّ هذه المراجع، وبالتالي، فإن احتمال الخطأ وارد؛ وأنا حريص على أن يدلني مَن هو أعرف مني إلى عناصر الخلل في قراءتي هذه للثورات. بالتأكيد، كما أشرتَ أنت بذلك، في سيرتي السياسية والفكرية والثقافية، كنتُ – دائماً – أحاول أن لا أبقى ثابتاً في لحظة معيَّنة، لذلك، فقد حاولت أن أتحول، في أفكاري، مع التحولات الجارية. واعتبرتُ أن ذلك شرطاً ضرورياً لكل من يدَّعي، مثلي ومثل سواي بأنه صاحب فكر تغييري، فالتغيير الذي هو شرط من شروط الحياة، لا يتم بمجرد الرغبة في ذلك؛ بل هو يتطلب معرفة حقيقية بالوقائع القائمة، ومن خلال هذه المعرفة، محاولة استنباط الأفكار والبرامج والقوى ذات المصلحة فيها، من أجل إحداث تغيير هذه الوقائع نحو الأفضل والأرقى.

مناضل تغييري
• ما هو قولك في أننا نرى أن هذا الكتاب، هو أكثر من كتاب؟ نظراً لمضمونيته الشاملة المتمثلة ببرنامج عمل متكامل لمشروع تغييري ديموقراطي مدني شامل، هو عبارة عن "خارطة طريق" حقيقية (عملانية ولا تنظيرية) تقدمها إلى شباب الثورات العربية المعاصرة وإلى المعنيين، حقاً، بقيادتها، تدفعنا – ودون أدنى تردد – إلى تسميته بـ"كتاب فلسفة الثورة" لجميع هؤلاء الذين ينتظر منهم الاستجابة الفعلية لبناء مستقبل مشرق حُرّ لبلداننا، خالٍ من شتى أنواع الاستبداد والطغيان.
امسح لي أن أعترض على تسميتك للكتاب بـ"فلسفة الثورة"، لست فيلسوفاً، وإنما أنا مناضل من أجل التغيير، وأمضيت عمري كله في تجربة اشتراكية انتهت إلى الفشل؛ لكنَّ فشلها لا يعني أنها لم تكن كمشروع للتغيير خاطئة أو غيرصالحة. وأريد بذلك أن أقول، إن أية فكرة لا تصبح ذات صلة بالتغيير، إذا لم تقترن بقوى بشرية، وببرامج واقعية وعقلانية لإخراجها من كونها فكرةً تجريدية إلى عملٍ حقيقي للتغيير. المشكلة هنا أن الذين تبنوا الفكرة الاشتراكية – على سبيل المثال – لم يكونوا جميعهم بمستوى القدرة على البقاء أمينين لجوهر الفكرة؛ بل إن بعضهم ذهب في الاتجاه النقيض لها، مما أدى إلى فشلها. لذلك، فحين قمت بهذه القراءة للثورات، قد كنت حريصاً على تقديم نقد من وجهة نظري لجميع هذه الثورات بأنواعها المختلفة، وعيني على شباب الثورات المعاصرة. قدمت لهم قراءتي وتجربتي. وفي يقيني – وهو ما أشرت إليه في الفصل الأخير من الجزء الثاني من الكتاب – فإن ما قام به هؤلاء الشباب حتى بعفوية حركتهم، هو عظيم بكل المعاني. فما أنجزوه، وهو إنجاز تاريخي يتمثل بأنهم وجّهوا ضربة قاسمة لأنظمة الاستبداد. ليس فقط بإسقاط بعض رموز الاستبداد، بل إنهم قضوا على فكرة الاستبداد. وبهذا المعنى، فأنا حريص على توصيف ثوراتهم بأنها ربيع عربي حقيقي. صحيح أنهم لم يكونوا يملكون برنامجاً حقيقياً للبديل الديموقراطي لأنظمة الاستبداد، وهذا أمر طبيعي في الشروط الراهنة. ورغم أن بعض القوى القديمة المتمثلة بالتنظيمات الإسلامية حاولت، وتحاول صياغة أنظمة شبيهة بأنظمة الاستبداد السابقة، لكنني أجزم بأن هذه القوى لن تستطيع أن تُعيد التاريخ إلى الوراء، وهذا يعني أن الثورة مستمرة، وأنا قواها تكبر ويتسع مداها. لقد انتهى زمن الاستسلام، والصراع هو طبيعة المرحلة الراهنة بين القوى التي تريد التغيير الحقيقي، باتجاه بناء أنظمة ديموقراطية مدنية، تحقق الحرية والتقدم والعدالة الاجتماعية؛ وبين القوى التي تسعى لتأخير تحقيق هذا التغيير. وهذا ما نشهده، على كل حال، في كل البلدان العربية وبصيغ مختلفة. وأروع وأعظم ما نشهده، بأشكال مختلفة، في بلدان الثورات العربية، هو قدرة واستعداد القوى المناضلة من أجل التغيير، على تقديم التضحيات، وهي باهظة جداً، كما تشير إلى ذلك الثورة في سوريا.
  

السابق
استجاب موظفو القطاع العام في قضاء بنت جبيل لدعوة هيئة التنسيق النقابية إلى الإضراب
التالي
طهران: لا حاجة لنا للتفاوض السري مع واشنطن