غزة: أثمان الانتصار

جانبان من اتفاق التهدئة الجديد بين إسرائيل والفصائل الفلسطينية في غزة يمكن الحديث عنهما بعد ساعات من دخول الاتفاق حيز التنفيذ.

الجانب الأول: تتجاوز أهمية الاتفاق بأشواط صيغته المباشرة. إنه يتعلق بإعادة صوغ قوانين الصراع حول غزة، ويشكل ذلك الاعترافَ العربي والدولي (والاسرائيلي ضمناً) بسيطرة حركة «حماس» على القطاع وتحولها مرجعية سياسية وأمنية لشؤون أكثر من مليون ونصف المليون من الفلسطينيين المقيمين هناك.

يضاف إلى ذلك، أن الاتفاق يحمل الثمار الأولى لتشكل صورة العلاقات الإقليمية في مرحلة ما بعد «الربيع العربي». ورغم أن هذه لم تستقر على وضع نهائي بعد، إلا أنها تنطوي على ميزات، منها الحضور الديبلوماسي المصري الكبير بالتنسيق مع تركيا والفصائل الإسلامية في غزة وقطر، مقابل غياب السلطة الوطنية الفلسطينية والدول العربية الأخرى. ويتلخص دور الولايات المتحدة التي فقدت الكثير من نفوذها في المنطقة منذ غزو العراق، كوسيط (منحاز) مع الجانب الإسرائيلي.

على الخلفية هذه، يساهم الاتفاق في إضفاء قدر كبير من الاستقرار والهدوء على غزة والسماح لسكانها بالتقاط الأنفاس والالتفات إلى عملية إعادة البناء المؤجلة منذ نهاية عدوان 2008-2009، وترميم ما يمكن ترميمه من مؤسسات تربوية واستشفائية. بيد أن الاستقرار الموعود لن يكون بلا ثمن، فامتناع الفصائل في غزة عن أي عمل عسكري ضد إسرائيل انطلاقاً من القطاع، وفي الوقت الذي لا تشارك الفصائل في أطر منظمة التحرير ولا في أجهزة السلطة، ولا تعنيها أي عملية سياسية تهدف إلى تحقيق تسوية مع إسرائيل، يعني أن القطاع وقواه خرجت عملياً من الصراع وباشرت رحلة البحث عن دور في فضاء أوسع قد يكون مصرياً-تركياً.

في المقابل، ليس من مؤشر واحد يقول إن السلطة في رام الله قادرة على الالتزام بمصالحة وطنية حقيقية مع «حماس» تعيد توحيد الصف الفلسطيني. ويبدو أننا أمام مرحلة جديدة من الانقسام، الهادئ لكن الثابت، حيث سيقنع الطرفان بواقعهما وينصرفان إلى تحقيق مكاسب في الجبهات التي ينشطان فيها: معالجة المشكلات الاقتصادية، التنمية، البطالة وغيرها من أشكال العمل ما دون السياسي. نرى هنا ملامح «الحل الاقتصادي» الذي كان بنيامين نتانياهو يدعو اليه عشية وصوله إلى الحكم.

هذه إحدى الزوايا التي يمكن النظر إلى الاتفاق الفلسطيني-الإسرائيلي الأخير عبرها.

الزاوية الثانية «ثقافية»، إذا جاز التعبير، خلاصتها الإصرار على وصف الاتفاق «بالانتصار»، فرغم أكثر من مئة وثلاثين ضحية فلسطينية قسم كبير منهم من الأطفال، ورغم الدمار الواسع، ورغم الأبعاد السياسية المقلقة للاتفاق ولمستقبل القضية الفلسطينية عموماً، إلا أن ذلك لم يحل دون الاحتفال بالاتفاق باعتباره نصراً جديداً يضاف إلى انتصارات المقاومة. وإذا قال قائل إن إسرائيل لم تفقد سوى خمسة قتلى، وإن المنازل الألف التي تضررت بالصواريخ الفلسطينية ستعود إلى حالتها السابقة قبل أن تنتهي عمليات رفع الأنقاض في غزة، وان «المستوى السياسي الإسرائيلي» سيوظف الحرب لتحقيق المزيد من التقدم على حساب الفلسطينيين، سيظهر من يكيل الاتهامات -على الطريقة البعثية- «بإيهان نفسية الأمة».

إن «السياسة الظافرية الانتصاروية»- بلغة ياسين الحافظ- ما زالت شديدة الحضور في «العقل السياسي» العربي (او اللاسياسي)، وما زالت تنجب أجيالاً من الممانعين الجدد الذين يرون في سقوط صاروخ في ضواحي تل أبيب ذروة الإنجاز المقاوم، سيان بعده ظلَّ الفلسطينيون في مخيماتهم وشتاتهم أو فنوا عن بكرة أبيهم، ذاك أن «الكرامة» استُعيدت…

السابق
صبرا:نحتاج لـ 60 مليار$ لاعمارها
التالي
جي لو تشارك اللبنانيين باحياء الاستقلال