إيران تردّ على حماس في غزّة

الخسارة التي مُنيت بها طهران بخروج حركة "حماس" ممّا يسمّى محور الممانعة لا توصف، وإذا كانت تقصّدت التعتيم على هذا التطوّر الاستراتيجي، فهذا لا يعني أنّها كانت في وارد التسليم بهذه الخسارة من دون ردّ الصاع صاعين للحركة ومحاولة خلق واقع بديل في غزّة.

فخروج "حماس" أدّى عمليّاً إلى الآتي:

أوّلاً، إخراج إيران من قلب المعادلة الفلسطينية وصميمها، وهذا الإخراج أفقدها أهم ورقة تفاوضية كانت نجحت في تغييب الدول العربية عنها. فعلى أهمّية ورقة "حزب الله" بالنسبة إليها، غير أنّها لا تعوّض ورقة "حماس"، لأنّ ورقة الحزب لا تضعها على طاولة المفاوضات الإسرائيلية-الفلسطينية، ما يعني إبعادها عن العنوان الأساس المتمثل بالقضية الفلسطينية التي ما زالت تشكّل أولوية الأولويات في الشرق الأوسط، وبالتالي تراجع دورها الإقليمي وانحسار نفوذها وغياب الحاجة الدولية للحوار معها في هذا الملف.

ثانياً، إنكشاف المشروع المذهبي الإيراني على حقيقته: فبعد أن انتزعت طهران العلم الفلسطيني فوّضت سوريا الأسد بمصادرته لعقود من الزمن بهدف إعطاء تدخّلها وتمدّدها مظلّة عربية وليس فارسية شيعية، كما ترييح "حماس" داخل بيئتها، وبالتالي الدور السوري بهذا المعنى كان مجرّد غطاء للتوغّل الشيعي-الإيراني في العالم العربي. فخروج حماس أدّى إلى إظهار المشروع الشيعي-الإيراني على حقيقته، الأمر الذي يربك طهران ويحدّ من توغّلها الذي كان يتيحه العنوان التحايلي المقاومتي، فيما العنوان المذهبي يصطدم بسدّ سنّي منيع في مواجهته.

ثالثاً، تطويق "حزب الله": شكّل انفصال حماس الضربة الأولى للمحور الممانع، فيما سقوط النظام السوري سيشكّل الضربة الثانية، وما بينهما تحوّلت ورقة "حزب الله" إلى ورقة بحكم الساقطة عسكريّاً بفعل تطويقها بكمّاشة سنّية على جانبي الحدود. وطالما الشيء بالشيء يُذكر، فالنظام السوري الذي أشعل الحرب اللبنانية في منتصف السبعينيات تبريرا لدخوله إلى لبنان، وضع في سُلّم أولوياته منع قيام دولة فلسطينية بديلة تجنّباً لقيام حكم سنّي على حدوده، واستطراداً تطويقه بنظامين عدوّين فتحاوي في لبنان وبعثي في العراق.

رابعاً، نهاية الدور الإقليمي لإيران: الهدف الأساس للنووي الإيراني ليس تدمير إسرائيل ولا إسقاط الاستكبار الأميركي، إنّما التحوّل إلى دولة إقليمية ليس بجغرافيتها وسلاحها وعدد سكّانها بل بامتداد نفوذها على دول البحر الأبيض المتوسط، وهي كانت على استعداد لمقايضة الملفّ النووي بالنفوذ الإقليمي، وفي طليعة شروطها التفاوضية مع الدول الخمس زائداً ألمانيا عدم البحث حصراً بالنووي، ومطالبتها الواضحة والمكتوبة في مقاربة ملفّات المنطقة، إلّا أنّ الأحداث التي نتجت عن الثورات العربية وتحديداً السورية أدّت بالمحصّلة إلى خسارة طهران أوراقها الواحدة تلوَ الأخرى، ما يعني أنّ دخولها المفاوضات في الملفّ النووي سيكون مجرّداً من أيّ مقايضة ومن موقع الطرف الضعيف والمهزوم.

تأسيساً على ما تقدّم، إنّ خروج حركة "حماس" من محور الممانعة ليس تفصيلاً، ولا يجب إطلاقاً التقليل من أهمّية هذا الانفصال ونتائجه الكارثية على إيران، وبالتالي حيال هذا الواقع المستجدّ رفضت طهران التسليم بالهزيمة والتموضع دفاعيّاً أو الاكتفاء بتنظيم تراجعها الاستراتيجي، فعمدت إلى افتعال حرب غزّة على "أمل" تحقيق الآتي:

أ- قلب الطاولة على حماس عبر إحراجها وإظهارها بأنّها غير ممسكة بزمام المبادرة داخل غزّة وفاقدة لقدرة السيطرة على أراضيها.

ب- خلق واقع رديف لـ"حماس" والمزايدة عليها داخليّاً بعنوان المقاومة التي يرفعها "الجهاد" في استعادة لمشهد فتح-حماس.

ج- إعادة الاعتبار لمفهوم المقاومة على حساب المفاوضات، إذ إنّ علّة وجود المحور الممانع قائمة على عامل أوحد هو الحرب، فيما السلام يعني نهاية هذا المحور الذي لا خيار أمامه سوى إبقاء الأوضاع غير مستقرّة والحروب مندلعة والقتل متواصلاً.

د- قطع الطريق أمام الاتصالات التي كانت قطعت شوطاً متقدّماً في ظلّ تجاوب إسرائيل مع الرغبة المصرية بترتيب هدنة طويلة الأمد.

هـ- توجيه رسالة إلى الولايات المتحدة بأنّها ما زالت لاعباً أساسيّا داخل الحلبة الفلسطينية، وأيّ محاولة لإخراجها ستؤدّي إلى إحراج الجميع بتوسيع رقعة الحرب الغزّاوية، ورسالة أخرى إلى مصر بأنّ الورقة الفلسطينية لن تؤول إليها بالكامل وأنّها ما زالت شريكاً في هذه الورقة.

و- تحويل الأنظار عن الأزمة السورية التي حقّقت خطوة نوعية مع ولادة الائتلاف المعارض الذي يلعب عامل الوقت لمصلحته إن لجهة اكتسابه المزيد من الاعترافات، أو اتّساع سيطرته على الأرض.

كلّ ما تحاول طهران القيام به يندرج في سياق تحسين شروطها التفاوضية ومحاولة تعويض خسارتها المدوّية بخروج "حماس" واقتراب سقوط النظام السوري، ولكنّ محاولاتها ستبوء بالفشل، لأنّ عصر المقاومات انتهى، ولم يعد هذا الشعار قابلاً للصرف لا عربيّاً ولا فلسطينيّا، وادّعاء النصر تحوّل هذه المرّة إلى "نصر إلهي سنّي" نتيجة البعد العربي الحمساوي المستجدّ، كما أنّ الرهان على استمرار إعطاء الذرائع لإسرائيل لتقويض المساعي السلمية لن يدوم مع خروج الولايات المتّحدة ومصر من وضعهما الانتقالي قريباً وضغطهما للذهاب نحو السلام الذي وحده يوفّر الأمن، على حدّ قول الرئيس الفلسطيني محمود عبّاس.

السابق
ماذا لو كانت أسماء الأسد حاملا؟
التالي
السلطان وزوجته الأعلى دخلا