الدين والعولمة “والجهل المقدس”

يعتقد المفكر البارز أوليفييه روا أن العولمة مزّقت، وستمزق أكثر، النسيج المجتمعي والقومي والثقافي والاقتصادي في كل بلدان العالم، ماجعل الأفراد يبحثون بِنَهَم عن حلول خارج كلٍ من الجماعات القومية، والمؤسسات الدينية التقليدية، والثقافة.

أوليفييه روا، أحد أبرز الباحثين الأوروبيين في حقل الأديان المعاصرة، خاصة منها الإسلامية.
وهو أصدر قبل فترة كتاباً قيّماً بعنوان:" الجهل المقدس: حين يفترق الدين والثقافة".

الكتاب كان الأول من نوعه الذي يطرح السؤال الكبير: ما تأثير العولمة (في طبعتها المتأمركة الراهنة) على الأديان الكبرى في العالم.
يرد روا سريعاً بالقول أن العولمة أدت إلى انفصام بين جماعات الإيمان الديني وبين الهويات الاجتماعية- الثقافية، ماخلق بيئة خصبة لنشوء الأصوليات المتطرفة وازدهارها.
وهكذا، فإن العولمة، وبدلاً من أن تقلّص نفوذ الدين في العالم، أسفرت عن إحيائه. لكن ذلك لم يتم دوماً بشكل إيجابي، إذ أن بروز التطرف الأصولي أدى إلى تفشي " الجهل المقدس"، وفق تعبيره. وهو منحى معادٍ للثقافة(De- culturalization) والتعددية والديموقراطية، ويضع نفسه في صدام مباشر مع كل من الثقافة الحديثة والحضارات والأديان الأخرى. وهذا ما يُفسّر برأيه أسباب صعوبة فهم وتحليل الظواهر الأصولية الجديدة.
ويجادل روا أننا، وبدلاً من العبادة الدينية التقليدية أو السلفية، نشهد هذه الأيام تذرر (من ذرّة) وتفرّد (من فرد) الإيمان الديني، وأيضاً فك ارتباط جماعات الإيمان مع هوياتها القومية والوطنية والإثنية. وهذا ما جعل المؤسسات الدينية التقليدية الكبرى في التاريخ، كالكنيستين الكاثوليكية في الغرب (أوروبا الغربية) والأرثوذكسية في الشرق (روسيا وأوروبا الشرقية)، والأزهر وباقي المؤسسات الرسمية الإسلامية، واللاهوت اليهودي التقليدي، في مواقع الدفاع.
والبديل؟
إنها التيارات الإنجيلية والخمسينية في المسيحية، والحركات الأصولية الإسلامية التي يقودها مثقفون من خارج سلك رجال الدين، والحركة الحريدية اليهودية الرافضة لكل أشكال الحداثة، والكونفوشيوسية الجديدة في شرق آسيا.
كل هذه التيارات تحث الفرد على الانسحاب من الثقافة السائدة (ناهيك عن إعلان الحرب عليها)، خاصة حين تكون هذه الثقافة علمانية، ومنطقية، ومادية. صحيح أن الأصوليين المسيحيين والإسلاميين واليهود والآسيويين يواصلون الانخراط في مجتمعاتهم، إلا أنهم لم يعودوا في الواقع جزءاً منها، بل هم يتحركون على مستويين يبدوان متناقضين: التركيز على الحقيقة المطلقة والشاملة التي تتفرد كل جماعة بادعاء احتكارها، والعمل في الوقت نفسه على التبشير بالخلاص الفردي، عبر الاتصال المباشر مع العناية الإلهية.
المسيحيون الخمسينيون، وهم الفرقة بروتستانتية الأكثر انتشاراً هذه الأيام في العالم (نصرّت حتى الأن ربع كوريا الجنوبية وأجزاء واسعة من الصين والبرازيل) والتي تدعو إلى أن يختبر الأفراد ما حدث لرسل المسيح حين تعرضوا إلى "معمودية الروح القدس"، يصفون عمل الأديان الجديدة بأنها أشبه بـ"السوق". لكن مايعرض في هذه السوق ليس سلعة ثقافية محددة، با هو لايقل عن كونه اتصالاً مباشراً بالله.

هذه الدعوة، مثلها مثل كل حركات الأصولية الجديدة التي تدعو إلى "تحرير" الفرد، (بما في ذلك دفعه إلى الانتحار لأهداف سياسية كما يحدث الآن في العالم الإسلامي)، شكّلت دعوة جذابة لأن العولمة أحدثت تمزقاً هائلاً في النسيج المجتمعي والقومي والثقافي والاقتصادي في العالم، ما جعل الأفراد يبحثون بِنَهَم عن حلول خارج كلٍ من الجماعات القومية والمؤسسات الدينية التقليدية.
ومع ذلك، وعلى رغم هذه النزعة اللاثقافية واللاسياسية، إلا أن السياسة (والعولمة) لها بالمرصاد بهدف استثمارها.
كيف؟
(غدا نتابع)

 

السابق
إسرائيل تحاول إنقاذ الأسد!
التالي
سامي الجميل عن هيئة النفط: هذه المحاصصة وهذه الطريقة بـ”الضحك على الناس” يجب ان تتوقف