المشكلة الاجتماعية سياسياً

تحوّلت معركة تصحيح الأجور إلى مسألة في صلب طبيعة النظام السياسي. تحتاج تلبية مطالب هيئة التنسيق النقابية لإقرار سلسلة الرتب والرواتب إلى تعديل جدي في منطق النظام الضريبي، وإلى إجراءات تحد من الامتيازات ومن النهب المتمادي لموارد الدولة.
زيادة الرواتب من دون موارد تهدد بارتفاع المديونية العامة إلى مستويات خطيرة على مالية الدولة. إقرار ضرائب جديدة على الطبقة الوسطى وما دون يلقى معارضة شرسة من الهيئات الاقتصادية. مواجهة الهدر والفساد والمصالح الكبرى المصرفية والعقارية وامتيازات الذين يسيطرون على الأملاك العامة وشركات الامتياز تلقى مقاومة الطبقة السياسية. هكذا أصبحت القضية الاجتماعية ضاغطة على مفاصل النظام السياسي. استطاعت الحكومة أن تنجز تسوية في القطاع الخاص بتواطؤ مكشوف بين النقابات وأرباب العمل تحت ضغط التهويل بإقفال المؤسسات وصرف العاملين فيها.
لكن الحكومة تواجه الآن مئتي ألف عائلة لبنانية يتحدون لوقف الانهيار المريع في مستوى المعيشة ويمثلون معظم مؤسسات الدولة. المخارج التي تطرحها الحكومة، لحسن الحظ، تصيب فئات واسعة وتشمل بعض أرباح الرأسمالية المرتبة بفروع الإنتاج. معارضة هذه الفئات تفتح ملف الموارد التي يمكن الحصول عليها من استيفاء الدولة لحقوقها المغتصبة في الأملاك العامة البحرية والنهرية، أو من الريع في المضاربة العقارية، أو من أرباح المصارف التي استحوذت على معظم فوائد الدين العام، أو من ضبط الجباية في المرافئ وفي الحسابات الضريبية للشركات الكبرى.
لأول مرة يكون الخيار في السياسة الاقتصادية والاجتماعية بين تعديلات جدية في السياسة الضريبية وبين مخاطر الانهيار الاقتصادي. بل إن الحكومة وهي تناقش الموارد أخذت في الاعتبار ارتفاع نسبة خدمة الدين العام من دون أن تتوقف عملياً عند الخطط الكفيلة بخفض الدين العام الذي يستنزف أكثر من ربع موازنة الدولة. أصبحت خيارات الحكومة محدودة جداً أمام حال الانكماش والركود والغلاء والبطالة وتراجع حصة قطاع الخدمات في ظل الأزمة السياسية. كل الحديث عن متانة الاقتصاد وقوة المصارف والاستقرار المالي والنقدي، كل الحديث التشويهي لمعطيات الاقتصاد تباهياً بودائع المصارف والاستثمارات، لم تعد تصمد أمام احتمالات انفجار الأوضاع الاجتماعية وإعلان الإفلاس الشامل للطبقة الوسطى. المشكلة بهذا الحجم قبل أن نتعامل مع التداعيات المحتملة للأزمة السياسية.
لن يكون مناسباً الآن الخوض في العلاقة التفاعلية بين الأوضاع الاجتماعية والحروب الأهلية. ولا المجال الآن يتيح اقتراح سياسات تنموية لامتصاص العنف السياسي والطائفي. لكن الراهن هو ان الأزمة الاقتصادية تذهب باتجاه الانهيار الاقتصادي الذي يتضافر مع الأزمة السياسية والأمنية ما يجعل كيان الدولة كله مهدداً بالانهيار والمجتمع بالتفكك. الإصلاح المطلوب الآن أقل بكثير من إعادة هيكلة النظام السياسي والاقتصادي، بل أقل بكثير من طموح تغيير بعض ركائزه أو تعديل بنيته. المسألة الاجتماعية الآن جزء من الدفاع عن الحد الأدنى من تماسك الاجتماع السياسي ومن بعض مقومات الاستقرار. إن ترميم أوضاع الطبقة الوسطى أو وقف الضغط المتزايد على مستوى عيش الفئات الدنيا من المجتمع هو أحد تدابير الأمن السياسي. فلا بديل الآن من المس بنظام الامتيازات غير المشروعة أصلاً التي راكمت الثروة في يد فئة محدودة جداً من أصحاب الحظوة والنفوذ. فالرأسمال المالي المصرفي التجاري العقاري استولى على جزء كبير من ثروة كل الشعب اللبناني عبر التلاعب بأسعار العملة والفوائد والمضاربة. إذا لم تكن هذه الفئة مستعدة اليوم للتنازل عن جزء يسير من هذه الغنيمة فهي تتحمل مسؤولية الفوضى القادمة. إن مقاومة هذه العملية الإنقاذية لتدارك الغليان الاجتماعي والسياسي يزيد من سرعة الأزمة وعمقها وعنفها. ليس خارج السياق ان الحرب الأهلية اتخذت منذ مراحلها الأولى شكل الاعتداء والتدمير المنهجي للمصالح الاقتصادية. كان هناك العنف الطائفي وكان هناك العنف الاجتماعي. معظم المصالح أو المؤسسات التي حافظت على نفسها كانت في حماية الميليشيات المنظمة والخاضعة لضريبة الحماية والأمن. قد يثور السؤال عن المواطنين الذين يخربون البنى التحتية ومؤسسات الدولة، لكنهم في الواقع يستهدفون الفئة المستفيدة من هذه البنى والمؤسسات. في حقيقة الأمر المواطنة والوطنية عقد بين الناس ودولتهم، فإذا صارت هذه الدولة عنوان الظلم والحرمان فهي غريبة ومستبدة ومعادية.
يحبل لبنان الآن بمخاطر جاوزت الأزمة السياسية إلى الأزمة الكيانية. الأمن بوجوهه المختلفة، والعنف بأشكاله المتعددة، والعدالة بكل معانيها، ومواريث الانقسام والأحقاد وثقافة الإقصاء والإلغاء، والعيش بكل مفرداته وقيمه وكرامته، أصبحت كلها معلقة على حبال نزاعات لا مكان لحلها في إطار الدولة. لن تستعيد الدولة مرجعيتها إلا إذا اتخذت خطوات تؤكد حرصها على الدور المنظم المدبّر المتوازن التحكيمي. قد لا تكون معالجة القضايا السياسية الكبرى متاحة، لكن استيعابها ممكن بجعلها خارج جدول الأعمال اليومي لمصلحة تفاهمات أساسية في استمرار العيش والاستقرار والتوزيع الأقل ضرراً للسلطة والثروة. فهل نفكك عناصر الانفجار خطوة خطوة بدءاً من تدارك المشكلة الاجتماعية؟

السابق
السفير: توحيد المعارضة السورية: ولادة برأسين!
التالي
أوباما الإيراني والتفاوض في جهنم