تونس و«السلفيون» و«الإخوان» … والخوف من الهاوي

انتهى «الربيع التونسي»، الذي كان في بداية «الربيع العربي»، بل الشرارة التي اطلقته، في اللحظة التي خرج فيها رجال امن في تظاهرة أمام وزارة الداخلية التونسية يطالبون بإعادة الاعتبار لهم. حصل ذلك قبل ايّام قليلة. كانت التظاهرة التي طالب فيها رجال الامن توفير الحماية لهم بمثابة دليل على انتهاء الدولة. الدولة في النهاية هيبة لا أكثر. الشرطي البريطاني لا يحمل سلاحا. سلاحه هيبة الدولة ولا شيء آخر. سقط لبنان عندما لم يعد هناك احترام للشرطي وعندما انقسم الجيش بسبب الولاءات الطائفية ولم يبق في المؤسسة العسكرية سوى الضباط والافراد، من جميع الطوائف والمناطق، الذين يؤمنون فعلا بالجمهورية ومؤسساتها.
تبدو تظاهرة رجال الامن التونسيين يوم الخميس الواقع فيه اول نوفمبر 2012 بمثابة نقطة تحوّل على الصعيد الوطني. تبيّن بكل بساطة أنه لم يعد هناك وجود لدولة في تونس وأنّ السلفيين يتصرّفون بصفة كونهم فوق القانون، هذا إذا بقي شيء من القانون.
لم يعد مهمّا أن يكون هناك نحو ثلاثمئة سلفي، وليس مئة فقط كما يتردد في وسائل الاعلام، معتقلين منذ الهجوم على السفارة الاميركية في تونس يوم الرابع عشر من سبتمبر الماضي. المهمّ أن يكون هناك هو على استعداد للتصدي فعلا لتيّار متخلف لم يتردد احد «امرائه» ويدعى نصر الدين العلوي، امام جامع النور، في القول أن «حركة النهضة ليست سوى ذراع للادارة الاميركية في تونس». اكثر من ذلك، دعا الشيخ العلوي بشكل علني «شباب تيّار الصحوة الاسلامية الى اعداد اكفانهم استعدادا للجهاد لأنّ حركة النهضة والعديد من الاحزاب السياسية تريد انجاز انتخابات جديدة على انقاض التيّار السلفي وجثّته».
من المسؤول عمّا آلت اليه تونس؟ الجواب أنّ ليس في الامكان الفصل بين «النهضة والسلفيين. ولد السلفيون من رحم النهضة، أي انّهم من انتاج حركة الاخوان المسلمين التي لم تتردد يوما في استخدام الدين من اجل الوصول الى السلطة. لا تمييز بين حزب ديني وآخر ما دام الهدف في النهاية رفع شعارات طنانة لا تأخذ في الاعتبار الواقع. والواقع هنا هو الواقع التونسي الذي يعني أول ما يعني وجود خصوصيات للبلد جعلت منه متقدما على صعد كثيرة على الرغم من امكاناته المحدودة.
تشكّل تونس مثالا ولا اوضح عن المصير البائس لمؤسسات الدولة في غياب مشروع سياسي متقدّم ومتطوّر يحترم الدين، بل يجلّه، ولكنّه لا يستغله من اجل الوصول الى السلطة.
مثل هذا المشروع لا يمكن الاّ أن يتأقلم مع الواقع التونسي في حال كان مطلوبا البناء على ايجابيات الماضي بدل التنكّر لها. في طليعة هذه الايجابيات ما تحقق في عهدي الحبيب بورقيبة وزين العابدين بن علي. بنى بورقيبة مؤسسات الدولة مستندا الى قوانين حديثة وتطوير التعليم من دون أي عقد، فيما عمل بن علي على تطوير الاقتصاد والانفتاح على اوروبا.
هذا لا يعني في اي شكل تجاهل الاخطاء الكبيرة، بل الخطايا التي وقع فيها الاثنان، خصوصا ما وقع فيه بورقيبة بعد تقدّمه في العمر وتمسّكه بالسلطة، على الرغم من فقدانه القدرات الذهنية والجسدية التي تسمح له بذلك. أمّا بن علي، فقد انصرف طوال سنوات، بعقلية الضابط في الشرطة، الى افراغ تونس من السياسة والسياسيين لمصلحة افراد عائلة زوجته السيدة ليلى طرابلسي وازلامهم غير آبه بأن هناك ارثا تاريخيا، هو ارث بورقيبة لا بدّ من المحافظة على الجزء الاساسي منه. خسر بن علي نفسه وخسر تونس في حين كان قادرا على الخروج من السلطة بشكل لائق لو عرف كيف يؤسس لتداول سلمي للسلطة بدل التفكير في كيفية توريثها على غرار ما حصل في سورية!
على الرغم من المساوئ الكثيرة التي حصلت في عهدي بورقيبة وبن علي، لا يمكن الاّ استغراب الخطاب السياسي الحالي في تونس. هناك تدهور كبير على صعيد التخاطب بين التونسيين وغياب ايّ احترام لحقوق رجال الامن…او المرأة. لم يعد للدولة وجود يذكر على اي صعيد من الصعد وقد انعكس ذلك وبالا على الاقتصاد وعلى المجتمع. في النهاية، هل يمكن تصوّر تونس، القريبة من اوروبا، من دون صناعات تحويلية ومن دون سياحة وزراعة؟
تسير تونس للاسف الشديد الى الهاوية. هل لا يزال في الامكان تدارك السقوط فيها في اسرع مما يعتقد؟ تفادي الهاوية لا يزال ممكنا في حال امتلكت حركة «النهضة» من الشجاعة بما يدفعها التصالح مع تاريخ تونس منذ استقلالها. لا عيب في الاعتراف بالإيجابيات، حتى لو كانت مرتبطة ببورقيبة وبن علي، ولا مشكلة في انتقاد السلبيات والعمل على تفاديها. لكنّ الحاجة تبقى قبل اي شيء الى مشروع لبناء دولة حديثة فيها مكان لاحزاب سياسية تتكلّم لغة العصر ولا تستخدم كلمة «الاكفان» التي هي ابعد ما تكون عن المجتمع التونسي وتقاليده.
يبقى سؤال: هل تؤمن «النهضة» بالديموقراطية والتداول السلمي للسلطة وحقوق المرأة، أم أن كل ما تريده استخدام الانتخابات للوصول الى السلطة وتهديد التونسيين بأنها الحاجز الوحيد الذي يقف في وجه تمكين السلفيين من التمدد في كل الاتجاهات.
الاكيد ان استخدام السلفيين لتبرير الاستحواذ على السلطة يشكّل ابتزازا للمجتمع التونسي، كما أن ذلك ليس الطريق الاسلم لبناء دولة والادعاء أنّ «الربيع العربي» حمل الخير الى تونس وأنّ «ثورة الياسمين» كانت بالفعل ثورة حقيقية وليست نتيجة طبيعية لنظام ترهّل ورفض الاعتراف بذلك!  

السابق
البحرين: خطأ سحب الجنسية
التالي
حول الحكومة الانتقالية السورية مرة أخرى