بيار نمّور.. تروتسكي المعارضة اللبنانية

لعدد ليس مهماً؛ فنحن في ثورة. فراغ الخيم من أهلها الذين امتلأت عقولهم بالشعارات حتى انتفخت، لا يعكس شيئاً. لدينا الآن في رياض الصلح، قائد ميداني، اسمه بيار نمور. وهو صاحب خبرة «لوجستيّة»، منذ قاتل مع الإسرائليين. ولدينا أيضاً، بوهيميّون وعشاق. الثابتون في الاعتصام، عشرة تقريباً، لكن العدد ليس مهماً، فنحن في ثورة

الأسد الأول من أسود خيَم ساحة رياض الصلح هو بيار نمّور. يجلس واثقاً بصليبه المشطوب ولحيته الطويلة التي لا تخفي ملامح تاريخه غير المشرّف. يداوم هناك والثورة شغله الشاغل. ورث الطيّبين الذين آمنوا في 2005 بأنهم سيغيّرون السياسة الدوليّة، وسيحررون البلاد من عبء حدودها. غادر اليساريّون والعونيّون والاشتراكيّون، وبدا لافتاً أن الكتائبيّين أيضاً غادروا. جاء الآن هذا الأسد الذي كان ملفوفاً بعلم القوات اللبنانيّة عندما خرج على التلفزيون، وتحدث باسم أصحاب الراية التي لفّ نفسه بها. الاعتصام سلميّ، لكن نمور لا يمانع القتل. ويجب أن يذكر الأمر في كل مناسبة. عندما يصبح «القتل أسهل شيء» يجب الإشارة بالإصبع إلى القتلة. نمور قال بالصوت والصورة إنه قد يقتل مستقبلاً، وإنه لا يمانع القتل. وصاحب الرأي الديموقراطي هذا هو أبرز وجوه الاعتصام السلمي أمام السرايا. يتصرف كالقائد في كشاف. يدور حوله بضعة صبية يوجههم بيديه، كأنه يوزعهم في نقاط عسكريّة. الرجل ليس مقبولاً وحسب، بل قائد. لماذا يكون مقبولاً وهو لم يعتذر على الأقل؟ عليه أن يعتذر من اللبنانيين لأنه قاتل مع جيش عدو ضدّ اللبنانيين. لكن من يسأل هنا عن كل ذلك؟ فنحن في ثورة. والثورة تحتوي الجميع، حتى الهارب المذعور إلى الإسرائيليين. لقد قال إن أشرف حياة هي في إسرائيل، لكن الإسرائيليين نبذوه. الإسرائيليّون عدو محترم أحياناً. طردوه وانتهى به المطاف في خيمة زرقاء قرب السرايا. حقد الرجل على حزب الله مفهوم، فقد أصابه المقاومون أكثر من مرة، عندما كان يقاتل في صفوف ميليشيا العملاء. القائد الميداني في «خِيَم الحريّة» عميل إسرائيلي صال وجال متنقلاً خلف خطوط العدو، وكاد يعلن أنه إسرائيلي. وهذه ليست بروباغندا؛ فغياب «الحساسيّة» من القيّمين على الاعتصام تجاه حالات مشابهة، يرفع مستوى الكراهية بين اللبنانيين، ويفسرّ بوضوح هويّة الجهة التي ترغب في التفجير وإحراق البلاد.
والتفجير خيار وارد. محبب لبنانيّاً. فنحن في ثورة. والثورة قد تعيد إنتاج الماضي، كمحاولة اقتحام السرايا من جديد، أو كوجود مناصرين لحزب الوطنيين الأحرار في الاعتصام. صحيح أن معتصمين في الخيَم لم يرغبوا في الحديث مع «الأخبار»، ما لم تُتَ!ح فرصة سؤالهم عن اقتحام السرايا تحديداً. لكن من يعلم؟ قد يظهر طيف المقدم التلفزيوني ما غيره، في أية لحظة، ويبدأ الهجوم. في خيمة المستقبل يجلس ثائر آخر عمره لا يتجاوز الثامنة عشرة. وهذا وفقاً لتعريف الأمم المتحدة، أو ممثلة «الشرعيّة الدوليّة» بلغة الأمانة العامة (المنتهية الصلاحيّة) لقوى 14 آذار، يحسب طفلاً. الطفل ثائر. يا لها من ثورة دائمة. يجلس هو الآخر في خيمة لتيار المستقبل ويحصي السيارات المارة، مستمتعاً بالصحبة الثائرة. يقول صاحب أكبر منه سنّاً إن الأمر «استكمال لثورة 2005». إنها ثورة دائمة إذاً على الطريقة التروتسكيّة. آمن المفكر الماركسي بالثورة الدائمة ودفع حياته ثمناً لأفكاره. لم يعلم أن جيلاً لا يعرف الماركسيّة سيقرر أن يثور دائماً. كان سيتنصل من أفكاره بلا أيّ شك لو رأى خيم «حركة الاستقلال» مثلاً. سألنا فقالوا إن هذه خيمة «نائلة وميشال معوض». رمزا الاستقلال البديع. الثوار الأوائل. لم يأتوا بعد إلى الخيم، وسبقهم في «النضال» الشهيد الحيّ مروان حمادة والشهيدة الحيّة ميّ شدياق. وجالوا بين العشرات. أمس، في «اليوم العادي» كان هناك عشرة ثوار فقط. ومن المتوقع اليوم أن يكون هناك العشرات، بعدما دعت «المنظمات الشبابيّة والطالبيّة في 14 آذار» إلى لقاء «سياسي» في ساحة رياض الصلح. الطريق مغلقة ومعبدة للتشاور «عالبارد المستريح». فنحن في ثورة. ونتحدث عن عشرة «عالقد»، انتشروا أمام الخيم الخالية، بمواجهة حرس مجلس النواب، الذين ملّوا من «تشويه» منظر المدينة. لكن لا بأس، فنحن في ثورة. والثورة، خاصةً الدائمة منها، تخيف أعداءها. السرايا مسيّجة بأسلاك قاسيّة، شوهت شكلها الناجي كعمارة بقيت من إرث المدينة السليب. وفي داخل السرايا، يجلس الرئيس نجيب ميقاتي. والثوار يعتقدون أنه خائف. الرئيس نجيب ميقاتي لا ينام. بلا شك ميقاتي متأرق. وقد يكون خائفاً أيضاً. الثوار رابضون في الخيم كالأسود. واحزروا ماذا؟ خيم مزينة بأعلام أوستراليا. يا لها من ثورة «كوزموبوليتانيّة» على ميقاتي. أعلام أوستراليا موشومة على الخيم، بعد ظهور العلم البرازيلي في تشييع اللواء الشهيد وسام الحسن. لا أحد يمكنه أن يفهم كيف تزج هذه الدول في الخلاف اللبناني الداخلي. غير أن الأمر طبيعي. فنحن في ثورة، ولا ينقص إلا الطائرة، كي يسرقها «مارك» ويهرب بها إلى الصحراء، كما في فيلم «نقطة زابرسكي» للمخرج الإيطالي الشهير مايكل أنجلو أنطونيوني. في بداية هذا الفيلم، يجتمع ثوار العالم ويتساجلون، تماماً كما في ساحة رياض الصلح، مع فارق بسيط، «الداون تاون» ليست لوس أنجلس. وفي الفيلم، كان الثوار ثواراً، وإن كانوا بوهيميين. وللأمانة، في البوهيميّة،لا يقل ثوار «الأرز» عن ثوار «زابرسكي» شأناً. الثوار. أصبح المصطلح فضفاضاً. يلقى على من يشاء وينزع عمن يشاء. الثوار: زحفاً زحفاً نحو السرايا. نوماً نوماً في الخيم. وصدقوا أو لا تصدقوا، الجالسون هناك قرب الخيم يعرّفون عن أنفسهم أنهم ثوار، وعلى رأسهم، الثائر الأكبر، بيار نمور.
أجمل ما في الثورة الناعمة هذه، ثائر وثائرة، يتبادلان الحبّ على المقعد الثوري في رياض الصلح. إنها ثورة صامتة يخوضها أهلها جلوساً وبلا ضجيج. رُقي يمرّ في عين الناظر نسيماً. حولهما أعلام لبنانيّة مزروعة في الأرض فلا تقوى عليها ريح ولا تجرؤ يد على انتزاعها. عيناه ذابلتان وهي تضحك، متظللان بخيمة الثورة الدائمة. ولا داعي إلى التحامل على الحريّات. الحبّ حريّة شخصيّة. وإحراق البلاد أيضاً. إن الحب الذي ينتقل من قلب إلى قلب بدفء، في ساحة بيار نمّور الميمونة (رياض الصلح سابقاً)، ليس إلا فرحاً مسبقاً بانتصار ثورة الخيم. الثورة الدائمة. كم هو رقيق. كم هو حميمي. مرحى لكم أيها التروتسكيّون.

السابق
لا استقرار مع شرعيات القوة
التالي
ما بين أوباما ورومني