الحداثوي المهزوم

باكراً، وقع عاصم سلام في تناقضات هذا البلد. وباكراً، بدا مرشحاً ليكون ضحية تلك التناقضات. يبدو ذلك مخالفاً لسِير أبناء العائلات، ولاسيما الحاضرة في المجتمع والسياسة اللبنانيين، والقادرة اقتصادياً. لكن عاصم سلام، لكونه حداثويّاً، ممن كسّروا تلك القاعدة. ولعله أبرز من ظهّروا تلك التناقضات ودفعوا ثمنها. ومع استشراء التحولات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي مر بها لبنان في العقود الخمسة الماضية، تظهّرت خساراتهم.
الأكيد أنه لم يقع في تلك التناقضات، ولم يخسره لبنان، لكونه ابن عائلة إقطاعية، فهو لم يكن يوماً ابن تلك العائلة فحسب، لم يكن يوماً بيكاً فحسب. لمعادلات الوراثة في العائلة دور في وقوعه في تلك التناقضات، لكنها ليست السبب الوحيد. وربما يمكن نَسب دور في ذلك لتراجع دور العائلات، ومنها سلام، في السياسة والمجتمع والاقتصاد، لكن عاصم سلام أحس بتلك التناقضات وارتداداتها قبل بدء التراجع. وقد اختار باكراً فلسفات إنسانية، من دون تحزّب، تجعله يرى ذاك التراجع ويقبله، بل ينتمي إلى تيار التحديث والتطوير.
كأنه مع دراسته الهندسة واشتغاله بها ومع انتمائه الفكري إلى الحداثة، بات برجوازياً ذا قاعدة اقتصادية واجتماعية وسياسية. وفي هذا تكمن العقدة الدرامية لسيرته وشخصه. بات برجوازياً ينتج من عمله ومن البناء، فيما كان البلد يشهد «صعود» برجوازيات «تنتج» عمل غيرها ومن انهيار البلد. وهو في هذا، نموذج. نموذج لفئات واسعة، علمية وثقافية واجتماعية واقتصادية وحتى سياسية، أُقصيت. ومع رفضها تلك التحولات واعتبارها تجديداً للنظام القائم وتوليداً حربيّاً وفاسداً لفئات السلطة وطبقتها، تمنّعت بسبب أفكارها وأخلاقيــاتها عن الاندمــاج في المسار العام.
هكذا، بات عاصم سلام، صاحب الدور والرؤية اللذين يتجاوزان العمل العادي في الهندسة والعمارة إلى المدينة والدولة وتحديثهما وفق مسار تاريخي واجتماعي في آن، رمزاً لمحاولات «تصويب الأمور»، بل رمزاً لإخفاق تلك المحاولات. فبعد الحرب التي همّشت تلك الفئات ونخبها لمصلحة الميليشيات وزعمائها وزعرناتهم، وجدت تلك الفئات، أو بعضها ومنه عاصم سلام، نفسها أمام حقيقة إقصائها لمصلحة تحالف زعماء الميليشيات والمـــال المســتجد. ولكونه عاصم سلام بموروثاته وأفكاره وشخصيته المركبة لم يرَ إلى العمل السياسي كعمل لاســـترداد سلطة أو مقام ضائعين، وإنما كنضال مواطني ثقافي ونقابي وحركي.. تجديدي. وهـــنا، أكـــد عاصم سلام افتراقه لا عن العائلية التي لم يمتطـــها فحســـب، وإنمـــا عن السياسة الميليشيوية والمستجدة التي يديرهـــا اللاعـــب الإقليـــمي المكلـــف دولياً. فجـــرّب في أواسط التسعيـــنيات النهـــوض بـ«نقــابة المهندسين» ودفعها إلى دور «معارض» لسياسة إعادة إعمار بيروت، وكان على أمل أن يتحوّل ذلك عملاً تأسيسياً لمعارضة سياسيّة، إذ كان يعرف أن إعادة الإعمار ليســت رؤية هندسية و«استثماراً» فحسب، وإنما هي نهج سلطوي تجاه المدينة وحقــوق المواطنين، وفوق هذا هي تعبير عن تحالف المصالح وطبيعة الطاقم الحاكم وسلوكه تجاه المدينة والمجتمع وحداثة البلد ونموه وتطويره.
وقد هُزم هذا الخيار في ظل أزمة اليسار وانحساره وتشتته وافتقاد المجتمع المدني إلى المشروع والمشروعية وسعي النخب البرجوازية إلى مكاسب شخصية في النظام القائم من دون أهداف مشتركة. وعاصم سلام واحد من رموز هذا الخيار، وقد أدرك الهزيمة باكراً وعبّر مراراً عن الإخفاق الذي بات يأساً عاماً. ومثلما أدرك باكراً أن المشكلة أعقد من إقصاء طبقة ـ فئات مستجدة لطبقة قديمة، أدرك أيضاً أن البلد مخطوفٌ من تلك الطبقة ـ الفئات المستجدة، وأن التحديث بلا قوى وبوصلة، وأن الحداثويين، في المرحلة الراهنة، ليسوا إلا أفراداً ومجموعات تحاول وتخفق.
مع غياب عاصم سلام يطوي الحداثويون صفحات مملوءة بالأحلام المتكسّرة والطاقات المبدّدة. وللآخرين أن يفرحوا أن الحداثويين الذين يترفعون عن امتيازات بالية ويسعون لحياة أفضل تتحول إلى أنماط عيش فردي، يموتون وحــيدين، بصمـــت، فيما ضجيج الطاقم الحاكم وحلفائهم الإقليميين والدوليـــين، والمواطنين المأخوذين بالمذهبية يغطي على أنين انهيار البلد والخسارات المتوالية كنسل ملعون لا ينقطع.

السابق
الارهاب يقتل الممثل محمد رافع
التالي
النسخة العاشرة لـ«بلوم بيروت ماراتون» الأحد المقبل