لبنان: لعنة الدور

يقال إن لبنان ذو دور، سواء أكان الدور جيوستراتيجياً، أم رسالة سماوية أم جسراً ثقافياً، فإن ثمن الدور لن يتغير. يدفع ثمن الدور أبناء لبنان، خاصة زعماءهم، وما قصّر واضعو الدور في قتل زعماء لبنان عندما تغير أداؤهم على المسرح. وما قصر اللبنانيون في قتل بعضهم البعض عندما انتقل المسرح من فصل إلى آخر. فالذي يقرر الأدوار للنخبة الحاكمة، والفصول لجمهور الممثلين والمشاهدين، يقرر بحسب هواه، أو بحسب ما يراه مناسباً لرؤيته أو لمصالحه؛ مع التغيير يحصل القتل.
ليس مهماً أي فريق يحقق في الجريمة وأية محكمة دولية تحاسب المجرم وتفرض العقوبة، وأي مخرج كبير يقرر تغيير الدور. لبنان بلد صغير يحتمل تعدد المخرجين لدوره، بالأحرى أدواره، أو أدوار اللاعبين على ساحته. المهم هو أن لبنان يدفع دائماً ثمن الدور، الثمن يدفعه زعماؤه في الأحوال العادية، ويدفعه شعبه في الأحوال غير العادية (أي الحروب الشعبية والأهلية). لذلك، رأينا مسلسل القتل والعزل مستمراً منذ تأسيس لبنان، وقد طال هذا المسلسل جميع طوائف اللبنانيين في أدوارها المختلفة؛ هذه الأدوار التي صار واضحاً أن اللبنانيين، أفراداً وطوائف، يتبادلونها برضى.
الذين يقولون بالدور الاستراتيجي يضعون لبنان رهينة قرارات الدول الكبرى، وقد رأينا وزراء ومندوبي هذه الدول يتقاطرون إلى دعم الحكومة الراهنة، كما كانوا يتقاطرون لدعم الوزارات السابقة (سنيورية أو غيرها). والذين يقولون بالدور الرسالة، لا يدركون معنى فصل الدين عن الدولة، وفصل دور المؤسسة الدينية عن المؤسسة السياسية، وفي النهاية إخضاع دور الدين ومؤسسته لاعتبارات السياسة الدولية ومؤسساتها. أما الدور الثقافي، وأن يكون لبنان جسراً بين الغرب والشرق، فهؤلاء يغيب عن بالهم أن الأعمدة في الشرق أو الغرب؛ عندما تنهار ينهار الجسر. تنهار الآن الأعمدة في الجزء الشرقي من الجسر في سوريا، يتصدع الجسر بإرادة أبنائه، أو بعض أبنائه.
على المسرح يتغير البطل، «يُقتل»، «يُستغنى عنه». لدى الجمهور يتغير الفصل، ينتهي الأمر بالجمهور إلى التقاتل في ما بين جماعاته. الطائفية جاهزة لتحضير جو التقاتل. مع التغذية بالمال والسلاح، أو العتاد الذي يصنع محلياً، أو يستورد من الخارج. البطالة متفشية، كثرة الرجال جاهزون للأغراض في أتون الحرب الأهلية؛ بما يعني ذلك تغيير الفصل في الكتاب؛ ولا تغيّر طبيعة الأهداف، الواقعية المصلحية، ولا الأهداف المثالية الرسالية، ولا الأهداف الثقافية، شيئاً من طبيعة القتل الذي يصيب الناس من مختلف المستويات ومختلف الطوائف.
الدور يُشرّع الأبواب والنوافذ للخارج. يؤدي إلى أن تصير سياسة لبنان الخارجية حصيلة التبدلات الخارجية والسياسات الخارجية لا حصيلة إرادة أبنائه. باختصار، يصير لبنان انعكاساً داخلياً لسياسته الخارجية، وليست سياسته الخارجية انعكاساً لقواه الداخلية. يصير لبنان كله رهينة للخارج، محطة لأبنائه الذين يعيشون في الخارج، ويفتش أبناؤه عن فيزا للسفر إلى الخارج، بالأحرى يتسولون الفيزا.
مع تشريع أبواب لبنان ونوافذه للخارج، تُستَلَب إرادة أبنائه؛ ويصير مجلس النواب مركزاً لإقرار قانون انتخابات يرفضه الجميع، ومجلس الوزراء مركزاً لتمرير المعاملات الإدارية لا مركزاً لرسم السياسة، والسياسات القطاعية وبرامج العمل.
للسياسة مركز آخر أبعد من هيئة الحوار.
لبنان الدور، مهما كان الدور، يسلب أبناءه إرادتهم. يستخدم الطائفية لتسهيل لعب الدور. رأسمالية النظام تستفيد من كل ذلك في سبيل إحراز مزيد من النهب لفقرائه من مختلف الطوائف، ولضرب نقاباته باسم كل الطوائف، ولتغييب كل الحقوق باسم عدم توفر الأموال لبنود في مواد الموازنة التي يفترض أن تندرج لتأكيد هذه الحقوق. الطوائف منظمات مجتمع أهلي، تعني التضامن الشعبي في وجه المشاغبين، وتواجه المهمشين كي لا تتطور حركتهم، وتجند قادة الطوائف كي يعملوا حراساً في هيكل الرأسمالية.
قضى لبنان سنيّ الاستقلال دولة ضعيفة أمام الخارج، قوية أمام الداخل. هذا ما يحتمه الدور، إن كان هناك من دور. وقضى سكان لبنان سنيّ الاستقلال وهم قلقون على مصيرهم. يمضون وقتهم يسألون عن مصير البلد، وعن الوجهة التي تسير إليها الأمور. يعلمون بأن المصير ليس بأيديهم، فيزداد قلقهم. يقال إن اللبنانيين من أكثر شعوب الأرض نهماً بالمهدئات والمسكنات والمنوّمات. إذا كنت وزيراً أو نائباً أو حتى سياسياً، ولو خارج التداول، يسألونك السؤال ذاته عن مصير البلد. يسألونك السؤال ذاته عرفوك أم لم يعرفوك معرفة شخصية.
مشكلة لبنان ليست الانقسام أو التعددية. لا بلد في العالم يخلو منهما. مشكلة لبنان هي السياسة. السياسة أساساً داخلية، تعتمد على القوى الداخلية، على قوى الإنتاج والمقاومة والاستقلال. مهما كان البلد صغيراً فإنه يستطيع مقاومة أقوى دول الأرض إذا اختار أن يكون مقاوماً، أو إذا اختار أن يكون منتجاً، أو إذا اختار أن يكون مستقلاً.
ما زلنا في لبنان نختار الطريق الذي يجعلنا على تصالح مع القوى الأجنبية، نسميها قوى عظمى، سواء أكانت كذلك أم لم تكن. ما زلنا نعتمد على العلاقات الخارجية؛ ما زلنا نعتمد على الدور الخارجي. ما زال لبنان الداخلي لا حساب له في ميزان السياسة اللبنانية. لذلك لا تزال السياسة اللبنانية باعثة على الإحباط واليأس والبؤس والقادة الذين لا يستحقون أن يقال عنهم شيء.
ما زلنا لا نتعلم من تاريخنا. ما زالت الآمال معلقة على الخارج. نصير أسوياء عندما تنعقد الآمال على الداخل.

السابق
قائد النتخب يتعهد بانتصارات مفرحة
التالي
قبل دقائق من الانفجار